الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        46 - الحديث الثالث : عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : { كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ، والعصر والشمس نقية والمغرب إذا وجبت ، والعشاء أحيانا وأحيانا إذا رآهم اجتمعوا عجل . وإذا رآهم أبطئوا أخر ، والصبح كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس } .

                                        التالي السابق


                                        الهاجرة : هي شدة الحر بعد الزوال . الحديث يدل على الفضيلة في أوقات هذه الصلوات . فأما الظهر : فقوله " يصلي الظهر بالهاجرة " يدل على تقديمها في أول الوقت ، فإنه قد قيل في الهاجرة والهجير : إنهما شدة الحر وقوته . ويعارضه ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر { إذا اشتد الحر فأبردوا } ويمكن الجمع بينهما بأن يكون أطلق اسم [ ص: 168 ] الهاجرة " على الوقت الذي بعد الزوال مطلقا . فإنه قد تكون فيه الهاجرة في وقت ، فيطلق على الوقت مطلقا بطريق الملازمة ، وإن لم يكن وقت الصلاة في حر شديد . وفيه بعد . وقد يقرب بما نقل عن صاحب العين : أن الهجير والهاجرة نصف النهار . فإذا أخذ بظاهر هذا الكلام : كان مطلقا على الوقت .



                                        وفيه وجه آخر : وهو أن الفقهاء اختلفوا في أن الإبراد رخصة أو سنة ولأصحاب الشافعي وجهان في ذلك . فإن قلنا : إنه رخصة ، فيكون قوله صلى الله عليه وسلم " أبردوا " أمر إباحة ، ويكون تعجيله لها في الهاجرة أخذا بالأشق والأولى . أو يقول من يرى أن الإبراد سنة : إن التهجير لبيان الجواز . وفي هذا بعد ; لأن قوله " كان " يشعر بالكثرة والملازمة عرفا .



                                        وقوله والعصر والشمس نقية يدل على تعجيلها أيضا ، خلافا لمن قال : إن أول وقتها ما بعد القامتين . وقوله " والمغرب إذا وجبت أي الشمس " . الوجوب : السقوط . ويستدل به على أن سقوط قرصها يدخل به الوقت . والأماكن تختلف ، فما كان منها فيه حائل بين الرائي وبين قرص الشمس ، لم يكتف بغيبوبة القرص عن الأعين ويستدل على غروبها بطلوع الليل من المشرق . قال : صلى الله عليه وسلم { إذا غربت الشمس من هاهنا ، وطلع الليل من هاهنا . فقد أفطر الصائم } أو كما قال . فإن لم يكن ثم حائل فقد قال بعض أصحاب مالك : إن الوقت يدخل بغيبوبة الشمس وإشعاعها المستولي عليها . وقد استمر العمل بصلاة المغرب عقيب الغروب . وأخذ منه : أن وقتها واحد والصحيح عندي : أن الوقت مستمر إلى غيبوبة الشفق .



                                        وأما العشاء : فاختلف الفقهاء فيها . فقال قوم : تقديمها أفضل . وهو ظاهر مذهب الشافعي . وقال قوم : تأخيرها أفضل ، لأحاديث سترد في الكتاب . وقال قوم : إن اجتمعت الجماعة فالتقديم أفضل . وإن تأخرت فالتأخير أفضل . وهو قول عند المالكية . ومستندهم هذا الحديث . وقال قوم : إنه يختلف باختلاف الأوقات . ففي الشتاء وفي رمضان : تؤخر . وفي غيرهما : تقدم . وإنما أخرت في الشتاء لطول الليل ، وكراهة الحديث بعدها . .



                                        [ ص: 169 ] وهذا الحديث يتعلق بمسألة تكلفوا فيها . وهو أن صلاة الجماعة أفضل من الصلاة في أول الوقت ، أو بالعكس ؟ حتى إنه إذا تعارض في حق شخص أمران :

                                        أحدهما : أن يقدم الصلاة في أول الوقت منفردا ، أو يؤخر الصلاة في الجماعة أيها أفضل ؟ والأقرب عندي : أن التأخير لصلاة الجماعة أفضل . وهذا الحديث يدل عليه ، لقوله " وإذا أبطئوا أخر " فأخر لأجل الجماعة مع إمكان التقديم ; ولأن التشديد في ترك الجماعة ، والترغيب في فعلها : موجود في الأحاديث الصحيحة وفضيلة الصلاة في أول الوقت وردت على جهة الترغيب في الفضيلة ، وأما جانب التشديد في التأخير عن أول الوقت : فلم يرد كما في صلاة الجماعة . وهذا دليل على الرجحان لصلاة الجماعة . نعم إذا صح لفظ يدل دلالة ظاهرة على أن الصلاة في أول وقتها أفضل الأعمال كان متمسكا لمن يرى على خلاف هذا المذهب . وقد قدمنا في الحديث الماضي : أنه ليس فيه دليل على الصلاة في أول الوقت فإن قوله " على وقتها " لا يشعر بذلك . والحديث الذي فيه " الصلاة لوقتها " ليس فيه دلالة قوية الظهور في أول الوقت . .



                                        وقد تقدم تفسير " الغلس " وأن الحديث دليل على أن التغليس بالصبح أفضل . والحديث المعارض له - وهو قوله { أسفروا بالفجر . فإنه أعظم للأجر } - قيل فيه : إن المراد بالإسفار : تبين طلوع الفجر ووضوحه للرائي يقينا . وفي هذا التأويل نظر . فإنه قبل التبيين والتيقن في حالة الشك لا تجوز الصلاة . فلا أجر فيها . والحديث يقتضي بلفظة " أفعل " فيه : أن ثم أجرين أحدهما أكمل من الآخر . فإن صيغة " أفعل " تقتضي المشاركة في الأصل ، مع الرجحان لأحد الطرفين حقيقة . وقد ترد من غير اشتراك في الأصل قليلا على وجه المجاز . فيمكن أن يحمل عليه ويرجح ، وإن كان تأويلا بالعمل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء . .




                                        الخدمات العلمية