الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 130 ] النوع الثاني

          فيما يتعلق في المتن وفيه بابان ، أولهما فيما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع ، وثانيهما فيما يشترك فيه الكتاب والسنة دون ما عداهما من الأدلة .

          الباب الأول

          فيما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع

          وكل واحد من هذه الأصول الثلاثة ، إما أن يدل على المطلوب بمنظومه ، أو لا بمنظومه ، فلنفرض في كل واحد منها قسما

          القسم الأول

          في دلالات المنظوم ، وهي تسعة أصناف

          الصنف الأول - في الأمر وفيه أربعة أبحاث

          أولهما : فيما يدل اسم الأمر عليه حقيقة .

          وثانيها : في حد الأمر الحقيقي .

          وثالثها : في صيغة الأمر الدالة عليه ، ورابعها : في مقتضاه .

          البحث الأول : فيما يطلق عليه اسم الأمر حقيقة .

          فنقول : اتفق الأصوليون على أن اسم الأمر حقيقة في القول المخصوص ، وهو قسم من أقسام الكلام ، ولذلك قسمت العرب الكلام إلى أمر ونهي ، وخبر واستخبار ، ووعد ووعيد ونداء ، وسواء قلنا إن الكلام هو المعنى القائم بالنفس ، أو العبارة الدالة بالوضع والاصطلاح ، على اختلاف المذاهب [1] والكلام القديم النفساني عندنا [2] وإن كان صفة واحدة لا تعدد فيه في ذاته ، غير أنه يسمى أمرا [ ص: 131 ] ونهيا وخبرا إلى غير ذلك من أقسام الكلام ، بسبب اختلاف تعلقاته ، ومتعلقاته ، كما سبق تقريره [3] في ( أبكار الأفكار ) فلا يمتنع أن يكون الأمر قسما من أقسامه بهذا التفسير ، وإنما وقع الخلاف بينهم في إطلاق اسم الأمر على الفعل ، هل هو حقيقة أو لا ؟ والأكثرون على أنه مجاز ، واختيار أبي الحسين البصري أنه مشترك بين الشيء والصفة ، وبين جملة الشأن والطرائق ، ووافق على أنه ليس حقيقة في نفس الفعل ، من حيث هو فعل ، بل من حيث هو شيء .

          وها نحن نذكر حجج كل فريق وننبه على ما فيها ، ونذكر بعد ذلك ما هو المختار ، أما حجة أبي الحسين البصري على ما ذهب إليه أن الإنسان إذا قال ( هذا أمر ) لم يدر السامع مراده من قوله إلا بقرينة وهو غير صحيح ، لكونه مصادرا [4] بدعوى التردد في إطلاق اسم الأمر ، ولا يخفى ظهور المنع من مدعي الحقيقة في القول المخصوص ، وأنه مهما أطلق اسم الأمر عنده كان المتبادر إلى فهمه القول المخصوص ، وأنه لا ينصرف إلى غيره إلا بقرينة ولا يخفى امتناع تقرير التردد مع هذا المنع .

          وأما حجج القائلين بكونه مجازا في الفعل فكثيرة .

          الأولى منها : أنه لو كان حقيقة في الفعل مع كونه حقيقة في القول لزم منه الاشتراك في اللفظ ، وهو خلاف الأصل ، لكونه مخلا بالتفاهم لاحتياجه في فهم المدلول المعين منه إلى قرينة ، وعلى تقدير خفائها ، لا يحصل المقصود من الكلام .

          الثانية ، أنه لو كان حقيقة في الفعل لاطرد في كل فعل ، إذ هو لازم الحقيقة ، ولهذا فإنه لما كان إطلاق اسم العالم على من قام به العلم حقيقة ، اطرد في كل من قام به العلم ، ولما كان قوله : ( واسأل القرية ) مجازا عن أهلها ، لما بينهما من المجاورة ، لم يصح التجوز بلفظ السؤال للبساط والكوز عن صاحبه ، وإن كانت الملازمة بينهما أشد ، وهو غير مطرد ، إذ لا يقال للأكل والشرب أمر .

          الثالثة ، أنه لو كان حقيقة في الفعل ، لاشتق لمن قام به منه اسم الأمر ، كما في القول المخصوص ، إذ هو الأصل إلا أن يمنع مانع من جهة أهل اللغة [ ص: 132 ] كما اشتقوا اسم القارورة للزجاجة المخصوصة ، من قرار المائع فيها ، ومنعوا من ذلك في الجرة والكوز ولم يرد مثله فيما نحن فيه .

          الرابعة : أن جمع الأمر الحقيقي في القول المخصوص بأوامر ، وهو لازم له لنفس الأمر لا للمسمى ، وهو غير متحقق في الفعل ، بل إن جمع فإنما يجمع بأمور .

          الخامسة : أن الأمر الحقيقي له متعلق ، وهو المأمور ، وهو غير متحقق في الفعل ، فإنه وإن سمي أمرا ، فلا يقال له مأمور ، ويلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم .

          السادسة : أن من لوازم الأمر الحقيقي ، وصفه بكونه مطاعا أو مخالفا ، ولا كذلك الفعل ، وفي هذه الحجج نظر .

          أما الأولى : فلقائل أن يقول : لا نسلم أنه يلزم من كونه حقيقة في الفعل ، أن يكون مشتركا [5] إذا أمكن أن يكون حقيقة فيهما باعتبار معنى مشترك بين القول المخصوص ، والفعل ، فيكون متواطئا [6] .

          فإن قيل : الأصل عدم ذلك المسمى المشترك ، فلا تواطؤ ، قيل : لا خفاء باشتراكهما في صفات ، وافتراقهما في صفات ، فأمكن أن يكون بعض الصفات المشتركة هو المسمى ، كيف وإن الأصل أن لا يكون اللفظ مشتركا ولا مجازا ، لما فيه من الافتقار إلى القرينة المخلة بالتفاهم ، وليس أحد الأمرين [7] أولى من الآخر .

          فإن قيل : ما وقع به الاشتراك [8] لا يخرج عن الموجود والصفة والشبيه [9] وغير ذلك ، وأي أمر قدر الاشتراك فيه ، فهو متحقق في النهي وسائر أقسام الكلام ، ولا يسمى أمرا .

          والقول [10] بأنه متواطئ ممتنع ، كيف وإن القائل قائلان ، قائل إنه مشترك [11] وقائل إنه مجاز في الفعل ، فإحداث قول ثالث [12] يكون خرقا للإجماع وهو ممتنع .

          [ ص: 133 ] قلنا : أما الأول فغير صحيح ، وذلك أن مسمى اسم الأمر إنما هو الشأن والصفة ، وكل ما صدق عليه ذلك كان نهيا أو غيره ، فإنه يسمى أمرا حقيقة .

          وعلى هذا فقد اندفع ما ذكروه من خرق الإجماع [13] فإن ما ذكرناه من جعل الشأن والصفة ، مدلولا لاسم الأمر ، فمن جملة ما قيل وإن سلمنا [14] أن ذلك يفضي إلى الاشتراك ، ولكن لم قيل بامتناعه .

          والقول بأنه مجاز مخل بالتفاهم [15] لافتقاره إلى القرينة وإنما يصح أن لو لم يكن اللفظ المشترك عند إطلاقه محمولا على جميع محامله ، وليس كذلك على ما سيأتي تقديره في مذهب الشافعي والقاضي أبي بكر ، سلمنا أنه خلاف الأصل ، وليس أحد الأمرين [16] أولى من الآخر .

          فإن قيل : إلا أن محذور الاشتراك أعظم من محذور التجوز ، فكان المجاز أولى ، وبيانه من جهة الإجمال والتفصيل ، أما الإجمال فهو أن المجاز أغلب في لغة العرب من الاشتراك [17] ولولا أنه أوفى بتحصيل مقصود الوضع ، لما كان كذلك ، وأما التفصيل فمن وجهين .

          الأول : أن المحذور اللازم من الاشتراك بافتقاره إلى القرينة لازم له أبدا ، بخلاف المجاز : فإن المحذور إنما يلزمه بتقدير إرادة جهة المجاز ، وهو احتمال نادر ، إذ الغالب إنما هو إرادة جهة الحقيقة .

          الثاني : أن المحذور لازم في المشترك في كل محمل من محامله ، لافتقاره إلى القرينة في كل واحد منها ، بخلاف المجاز ، فإنه إنما يفتقر إلى القرينة بتقدير إرادة جهة المجاز ، لا بتقدير إرادة جهة الحقيقة ، قيل هذا معارض [18] من عشرة أوجه ، [ ص: 134 ] الأول : أن المشترك لكونه حقيقة في كل واحد من مسمياته مما يطرد ، بخلاف المجاز كما سبق ، وما يطرد أولى لقلة اضطرابه .

          الثاني : أنه يصح منه الاشتقاق ، لكونه حقيقة بخلاف المجاز ، فكان أوسع في اللغة وأكثر فائدة .

          الثالث : أنه لكونه حقيقيا ، مما يصح التجوز به في غير محله الحقيقي ، بخلاف المجاز ، فكان أولى لكثرة فائدته .

          الرابع : أنه وإن افتقر إلى قرينة ، لكن يكفي أن يكون أدنى ما يغلب على الظن ، بخلاف المجاز ، لافتقاره إلى مغلبة على الظن ، وأن تكون راجحة على جهة ظهور اللفظ في حقيقته ، فكان تمكن الخلل معه لذلك أكثر .

          الخامس : أن المجاز لا بد فيه من علاقة بينه وبين محل الحقيقة ، تكون مصححة للتجوز باللفظ ، على ما سلف ، بخلاف المشترك .

          السادس : أن المجاز لا يتم فهمه دون فهم محل الحقيقة ضرورة كونه مستعارا منه ، وفهم كل واحد من مدلولات اللفظ المشترك غير متوقف على فهم غيره ، فكان أولى .

          السابع : أن المجاز متوقف على تصرف من قبلنا في تحقيق العلاقة التي هي شرط في التجوز ، وربما وقع الخطأ فيه : بخلاف اللفظ المشترك .

          الثامن : أنه يلزم من العمل باللفظ في جهة المجاز مخالفة الظهور في جهة الحقيقة ، بخلاف اللفظ المشترك ، إذ لا يلزم من العمل به في أحد مدلوليه مخالفة ظاهر أصلا .

          التاسع : أن المجاز تابع للحقيقة ولا عكس ، فكان المشترك أولى .

          العاشر : أن السامع للمجاز بتقدير عدم معرفته بالقرينة الصارفة إلى المجاز ، إذا كان هو مراد المتكلم فقد يبادر إلى العمل بالحقيقة ، ويلزم منه ترك المراد وفعل ما ليس بمراد ، بخلاف المشترك ، فإنه بتقدير عدم ظهور القرينة مطلقا ، لا يفعل شيئا فلا يلزم سوى عدم المقصود .

          فإن قيل إلا أن المجاز يتعلق به فوائد ، فإنه ربما كان أبلغ وأوجز وأوفق في بديع الكلام ونظمه ونثره للسجع والمطابقة والمجانسة واتحاد الروي في الشعر ، إلى غير ذلك .

          [ ص: 135 ] قلنا : ومثل هذا أيضا منقدح في اللفظ المشترك مع كونه حقيقة ، فكان اللفظ المشترك أولى ، وإن لم يكن أولى فلا أقل من المساواة ، وهي كافية في مقام المعارضة [19] .

          وأما الحجة الثانية ، فلا نسلم امتناع إطلاق الأمر على الأكل والشرب ، وإن سلم ذلك فعدم اطراده في كل فعل إن كان مما يمنع من كونه حقيقة في بعض الأفعال فعدم اطراده في كل قول مما يمنع كونه حقيقة في القول المخصوص ، وهو غير مطرد في كل قول على ما لا يخفى [20] ، وإن كان لا يمنع من ذلك في القول فكذلك في الفعل .

          فإن قيل : إنما يجب اطراد الاسم في المعنى الذي كان الاسم حقيقة فيه ، لا في غيره ، والأمر إنما كان حقيقة في القول المخصوص ، لا في مطلق قول ، وهو مطرد في ذلك القول ، فمثله [21] لازم في الأفعال ، إذ للخصم أن يقول إنما هو حقيقة في بعض الأفعال ، لا في كل فعل .

          أما الحجة الثالثة : أنه لو كان الأصل في الحقائق الاشتقاق لكان المنع من اشتقاق اسم القارورة للجرة والكوز من قرار المائع فيها على خلاف الأصل .

          فإن قيل : ولو لم يكن على وفق الأصل لكان الاشتقاق في صور الاشتقاق على خلاف الأصل ، والمحذور اللازم منه أكثر ; لأن صور الاشتقاق أغلب وأكثر من صور عدم الاشتقاق .

          قيل لا يلزم من عدم الأصالة في الاشتقاق أن يكون الاشتقاق على خلاف الأصل لجواز أن يكون الاشتقاق وعدمه لا على وفق أصل فيقتضيه ، بل هما تابعان للنقل والوضع .

          كيف وإنه إذا جاز أن يكون الاشتقاق من توابع الحقيقة جاز أن يكون من توابع بعض المسميات ، وليس أحد الأمرين أولى من الآخر ، وعلى هذا فلا يلزم من الاشتقاق في بعض المسميات الاشتقاق في غيره ؛ لعدم الاشتراك في ذلك المسمى .

          [ ص: 136 ] وبهذا يندفع ما ذكروه من الحجة الرابعة ، والخامسة ، والسادسة .

          كيف وقد قيل في الحجة الرابعة إن ( أوامر ) ليست جمع ( أمر ) بل جمع ( أمره ) وأما القائلون بكونه مشتركا بين القول المخصوص والفعل ، فقد احتجوا بثلاث حجج .

          الأولى : أن المسمى في نفسه مختلف ، وكما قد أطلق اسم الأمر على القول المخصوص ، فقد أطلق على الفعل ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، ويدل على الإطلاق قول العرب : أمر فلان مستقيم ، أي عمله ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : ( وما أمرنا إلا واحدة ) أي فعلنا ( وما أمر فرعون برشيد ) .

          الحجة الثانية : أن اسم الأمر في الفعل قد جمع بأمور والجمع علامة الحقيقة .

          والحجة الثالثة : أنه لو كان اسم الأمر في الفعل مجازا لم يخل : إما أن يكون مجازا بالزيادة أو بالنقصان ، أو لمشابهته لمحل الحقيقة ، أو لمجاور له ، أو لأنه كان عليه أو سيؤول إليه ، ولم يتحقق شيء من ذلك في الفعل ، وإذا لم يكن مجازا كان حقيقة ، وهذه الحجج ضعيفة أيضا .

          أما الحجة الأولى : فلقائل أن يقول لا نسلم صحة إطلاق اسم الأمر على الفعل ، وقولهم ( أمر فلان مستقيم ) ليس مسماه الفعل ، بل شأنه ، وصفته وهو المراد من قوله تعالى : ( وما أمرنا إلا واحدة ) ، ومن قوله : ( وما أمر فرعون برشيد ) .

          وأما الحجة الثانية ، فلا نسلم أن الجمع دليل الحقيقة ، بدليل قولهم في جمع من سمي ( حمارا ) لبلادته ( حمر ) وهو مجاز ، وإن سلمنا بأن الجمع يدل على الحقيقة ، ولكن لا نسلم أن ( أمور ) جمع ( أمر ) بل الأمر والأمور كل واحد منهما يقع موقع الآخر وليس أحدهما جمعا للآخر .

          ولهذا يقال ( أمر فلان مستقيم ) فيفهم منه ما يفهم من قولهم ( أمور فلان مستقيمة ) .

          وأما الحجة الثالثة : فهو أنه لا يلزم من كون الأمر ليس مجازا في الفعل أن يكون حقيقة فيه من حيث هو فعل ، وإنما هو حقيقة فيه من جهة ما اشتمل عليه من معنى الشأن والصفة كما سبق .

          [ ص: 137 ] وعلى هذا ، فالمختار إنما هو كون اسم الأمر متواطئا في القول المخصوص والفعل ، لا أنه مشترك [22] ولا مجاز في أحدهما .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية