الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنـزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين قال رب انصرني بما كذبون فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين [ ص: 469 ] وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين وقل رب أنـزلني منـزلا مباركا وأنت خير المنـزلين إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين قال رب انصرني بما كذبون قال عما قليل ليصبحن نادمين فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين ثم أنشأنا من بعدهم . قرونا آخرين ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه " قال المفسرون : هذا تعزية [ ص: 470 ] لرسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر هذا الرسول الصابر ; ليتأسى به في صبره ، وليعلم أن الرسل قبله قد كذبوا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " يريد أن يتفضل عليكم " ; أي : يعلوكم بالفضيلة فيصير متبوعا ، " ولو شاء الله " أن لا يعبد شيء سواه ; " لأنزل ملائكة " تبلغ عنه أمره لم يرسل بشرا ، " ما سمعنا بهذا " الذي يدعونا إليه نوح من التوحيد ، " في آبائنا الأولين " فأما الجنة فمعناها : الجنون .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله : " حتى حين " قولان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أنه الموت ، فتقديره : انتظروا موته . والثاني : أنه وقت منكر .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " قال رب انصرني " وقرأ عكرمة وابن محيصن : ( قال رب ) بضم الباء ، وفي القصة الأخرى [ المؤمنون : 39 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " بما كذبون " وقرأ يعقوب : ( كذبوني ) بياء ، وفي القصة التي تليها أيضا : ( فاتقوني ) [ المؤمنون : 52 ] ، ( أن يحضروني ) [ المؤمنون : 98 ] ، ( رب ارجعوني ) [ المؤمنون : 99 ] ، ( ولا تكلموني ) [ المؤمنون : 108 ] ، أثبتهن في الحالين يعقوب ، والمعنى : انصرني بتكذيبهم ; أي : انصرني بإهلاكهم جزاء لهم بتكذيبهم . " فأوحينا إليه " قد شرحناه في ( هود : 37 ) إلى قوله : " فاسلك فيها " ; أي : ادخل في سفينتك ، " من كل زوجين اثنين " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم " ( من كل ) بكسر اللام من غير تنوين . وقرأ حفص عن عاصم : ( من كل ) بالتنوين . قال أبو علي : قراءة الجمهور إضافة " كل " إلى " زوجين " ، وقراءة حفص تئول إلى زوجين ; لأن المعنى : من كل الأزواج زوجين . [ ص: 471 ]

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " وقل رب أنزلني منزلا " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : ( منزلا ) بضم الميم . وروى أبو بكر عن عاصم فتحها . والمنزل بفتح الميم : اسم لكل ما نزلت به ، والمنزل بضمها : المصدر بمعنى الإنزال ، تقول : أنزلته إنزالا ومنزلا .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الوقت الذي قال فيه نوح ذاك قولان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : عند نزوله في السفينة . والثاني : عند نزوله من السفينة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " إن في ذلك " ; أي : في قصة نوح وقومه ، " لآيات وإن كنا " ; أي : وما كنا ، " لمبتلين " ; أي : لمختبرين إياهم بإرسال نوح إليهم . " ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين " يعني : عادا ، " فأرسلنا فيهم رسولا منهم " وهو هود ، هذا قول الأكثرين . وقال أبو سليمان الدمشقي : هم ثمود والرسول صالح . وما بعد هذا ظاهر إلى قوله : " أيعدكم أنكم " قال الزجاج : موضع " أنكم " نصب على معنى : أيعدكم [ أنكم ] مخرجون إذا متم ، فلما طال الكلام أعيد ذكر " أن " ، كقوله : ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم [ التوبة : 63 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " هيهات هيهات " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : ( هيهات هيهات ) بفتح التاء فيهما في الوصل وإسكانها في الوقف . وقرأ أبي بن كعب ، وأبو مجلز ، وهارون عن أبي عمرو : ( هيهاتا هيهاتا ) بالنصب والتنوين . وقرأ ابن مسعود ، وعاصم الجحدري ، وأبو حيوة الحضرمي ، وابن السميفع : ( هيهات هيهات ) بالرفع والتنوين . وقرأ أبو العالية وقتادة : ( هيهات هيهات ) بالخفض والتنوين . وقرأ أبو جعفر : ( هيهات هيهات ) بالخفض من غير تنوين وكان يقف بالهاء . وقرأ أبو المتوكل ، [ ص: 472 ] الناجي ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة : ( هيهات هيهات ) بالرفع من غير تنوين . وقرأ معاذ القارئ ، وابن يعمر ، وأبو رجاء ، وخارجة عن أبي عمرو : ( هيهات هيهات ) بإسكان التاء فيهما . وفي " هيهات " عشر لغات قد ذكرنا منها سبعة عن القراء ، والثامنة : ( أيهات ) ، والتاسعة : ( أيهان ) بالنون ، والعاشرة : ( أيها ) بغير نون ، ذكرهن ابن القاسم ، وأنشد الأحوص في الجمع بين لغتين منهن :


                                                                                                                                                                                                                                      تذكر أياما مضين من الصبا وهيهات هيهاتا إليك رجوعها



                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج : فأما الفتح فالوقف فيه بالهاء ، تقول : ( هيهاه ) إذا فتحت ووقفت بعد الفتح ، فإذا كسرت ووقفت على التاء كنت ممن ينون في الوصل ، أو كنت ممن لا ينون . وتأويل " هيهات " : البعد لما توعدون . وإذا قلت : ( هيهات ما قلت ) فمعناه : بعيد ما قلت . وإذا قلت : ( هيهات لما قلت ) فمعناه : البعد لما قلت . ويقال : ( أيهات ) في معنى ( هيهات ) ، وأنشدوا :


                                                                                                                                                                                                                                      وأيهات أيهات العقيق ومن به     وأيهات وصل بالعقيق نواصله



                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو عمرو بن العلاء : إذا وقفت على ( هيهات ) فقل : ( هيهاه ) . وقال الفراء : الكسائي يختار الوقف بالهاء ، وأنا أختار التاء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " لما توعدون " قرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة : ( ما توعدون ) بغير لام . قال المفسرون : استبعد القوم بعثهم بعد الموت ; إغفالا منهم للتفكر في بدو أمرهم وقدرة الله على إيجادهم ، وأرادوا بهذا الاستبعاد أنه لا يكون أبدا . " إن هي إلا حياتنا الدنيا " يعنون : ما الحياة إلا ما نحن فيه ، وليس بعد الموت حياة . [ ص: 473 ]

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل : كيف قالوا : " نموت ونحيا " وهم لا يقرون بالبعث ؟

                                                                                                                                                                                                                                      فعنه ثلاثة أجوبة ذكرها الزجاج :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : نموت ويحيا أولادنا ، فكأنهم قالوا : يموت قوم ويحيا قوم .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : نحيا ونموت ; لأن الواو للجمع لا للترتيب .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : ابتداؤنا موات في أصل الخلقة ، ثم نحيا ، ثم نموت .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " إن هو " يعنون : الرسول . وقد سبق تفسير ما بعد هذا [ هود : 7 ، النحل : 38 ] إلى قوله : " قال عما قليل " قال الزجاج : معناه : عن قليل ، و " ما " زائدة بمعنى التوكيد .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ليصبحن نادمين " ; أي : على كفرهم ، " فأخذتهم الصيحة بالحق " ; أي : باستحقاقهم العذاب بكفرهم . قال المفسرون : صاح بهم جبريل صيحة رجفت لها الأرض من تحتهم ، فصاروا لشدتها غثاء . قال أبو عبيدة : الغثاء : ما أشبه الزبد ، وما ارتفع على السيل ، ونحو ذلك مما لا ينتفع به في شيء . وقال ابن قتيبة : المعنى : فجعلناهم هلكى كالغثاء ، وهو ما علا السيل من الزبد والقمش ; لأنه يذهب ويتفرق . وقال الزجاج : الغثاء : الهالك والبالي من ورق الشجر الذي إذا جرى السيل رأيته مخالطا زبده . وما بعد هذا قد سبق شرحه [ الحجر : 5 ] إلى قوله تعالى : " ثم أرسلنا رسلنا تترى " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر : ( تترى كلما ) منونة والوقف بالألف . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي بلا تنوين ، والوقف عند نافع وابن عامر بألف . وروى هبيرة وحفص عن عاصم أنه يقف بالياء . قال أبو علي : يعني بقوله : يقف بالياء : [ ص: 474 ] أي : بألف ممالة . قال الفراء : أكثر العرب على ترك التنوين ، ومنهم من نون . قال ابن قتيبة : والمعنى : نتابع بفترة بين كل رسولين ، وهو من التواتر ، والأصل : وترى ، فقلبت الواو تاء كما قلبوها في التقوى والتخمة . وحكى الزجاج عن الأصمعي أنه قال : معنى واترت الخبر : أتبعت بعضه بعضا ، وبين الخبرين هنية . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي ، قال : ومما تضعه العامة غير موضعه قولهم : تواترت كتبي إليك ، يعنون : اتصلت من غير انقطاع ، فيضعون التواتر في موضع الاتصال ، وذلك غلط ، إنما التواتر : مجيء الشيء ثم انقطاعه ثم مجيئه ، وهو التفاعل من الوتر ، وهو الفرد ، يقال : واترت الخبر : أتبعت بعضه بعضا وبين الخبرين هنيهة . قال الله تعالى : " ثم أرسلنا رسلنا تترى " أصلها : ( وترى ) من المواترة ، فأبدلت التاء من الواو ، ومعناه : منقطعة متفاوتة ; لأن بين كل نبيين دهرا طويلا . وقال أبو هريرة : لا بأس بقضاء رمضان تترى ; أي : منقطعا . فإذا قيل : واتر فلان كتبه ، فالمعنى : تابعها وبين كل كتابين فترة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " فأتبعنا بعضهم بعضا " ; أي : أهلكنا الأمم بعضهم في إثر بعض ، " وجعلناهم أحاديث " قال أبو عبيدة : أي : يتمثل بهم في الشر ، ولا يقال في الخير : جعلته حديثا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية