الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
4 [ ص: 385 ] حديث رابع وأربعون ليحيى بن سعيد

مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة أنها قالت : إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي الصبح ، فينصرف النساء متلففات بمروطهن ما يعرفن من الغلس .

التالي السابق


في هذا الحديث التغليس بصلاة الصبح ، وهو الأفضل عندنا ; لأنها كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ، وعمر ، ألا ترى إلى كتاب عمر إلى عماله أن صلوا الصبح والنجوم بادية مشتبكة .

وإلى هذا ذهب مالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وعامة فقهاء الحجاز ، وإليه ذهب داود بن علي ، وقد روينا : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر ، وعمر كانوا يغلسون بالصبح ، فلما قتل عمر أسفر بها عثمان .

ومن حجة من ذهب إلى أن التغليس أفضل من الصبح حديث أم فروة : ذكر عبد الرزاق ، عن عبيد الله بن عمر العمري ، عن القاسم بن غنام ، عن بعض أمهاته أو جداته ، عن أم فروة ، وكانت قد بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي الأعمال أفضل ؟ قال : الصلاة لأول وقتها .

[ ص: 386 ] وذكر أبو داود ، عن القعنبي ، ومحمد بن عبد الله الخزاعي جميعا ، عن العمري ، عن القاسم بن غنام ، عن بعض أمهاته ، عن أم فروة قالت : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الأعمال أفضل ؟ قال : الصلاة في أول وقتها .

وذهب العراقيون قديما وحديثا إلى الإسفار بها ، وقالوا : الإسفار بها أفضل .

واحتج من ذهب مذهبهم بحديث رافع بن خديج ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أسفروا بالفجر ، فإنه أعظم للأجر .

وبعضهم يزيد في هذا الحديث : أسفروا بالفجر ، فكلما أسفرتم ، فهو أعظم للأجر .

حدثنا أحمد بن قاسم حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا الحارث بن أبي أسامة حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن ابن عجلان ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن رافع بن خديج قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أسفروا بالفجر ، فكلما أسفرتم ، فهو أعظم للأجر .

قال أبو عمر : هذا الحديث إنما يدور على عاصم بن عمر ، وليس بالقوي ، وذكر عبد الرزاق ، عن الثوري ، وابن عيينة ، عن محمد بن عجلان ، عن عاصم [ ص: 387 ] بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن رافع بن خديج قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أسفروا بصلاة الغداة ، فإنه أعظم لأجركم .

وذكره أبو داود ، عن إسحاق بن إسماعيل ، عن ابن عيينة - بإسناده مثله - إلا أنه قال : أصبحوا بالصبح ، فإنه أعظم لأجوركم .

وذكره ابن أبي شيبة حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن محمد بن عجلان ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن رافع بن خديج قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أسفروا بالفجر ، فإنه كلما أسفرتم كان أعظم للأجر .

وحدثنا وكيع ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أسفروا بالفجر ، فكلما أسفرتم ، فهو أعظم للأجر .

وذكر عبد الرزاق - أيضا - ، عن الثوري ، عن سعيد بن عبيد الطائي ، عن علي بن ربيعة قال : سمعت عليا يقول لمؤذنه : أسفر ، أسفر يعني بصلاة الصبح .

وعن الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد قال : كان عبد الله يسفر بصلاة الغداة .

[ ص: 388 ] .

قال أبو عمر : على مذهب علي ، وعبد الله في هذا الباب - جماعة أصحاب ابن مسعود ، وهو قول إبراهيم النخعي ، وطاوس ، وسعيد بن جبير ، وإلى ذلك ذهب فقهاء الكوفيين ، وقد يحتمل أن يكون الإسفار المذكور في حديث رافع بن خديج ، وفي هذا الحديث عن علي ، وعبد الله يراد به وضوح الفجر وبيانه ، فإذا انكشف الفجر ، فذلك الإسفار المراد ، - والله أعلم - .

من ذلك قول العرب : أسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته ، وذلك أن من كان شأنه التغليس جدا لم يومن عليه الصلاة قبل الوقت ، فلهذا قيل لهم : أسفروا أي تبينوا ، وإلى هذا التأويل في الإسفار ذهب جماعة من أهل العلم منهم أحمد ، وإسحاق ، وداود .

حدثنا عبيد بن محمد ، وأحمد بن محمد قالا : حدثنا الحسن بن سلمة قال : حدثنا عبد الله بن الجارود قال : حدثنا إسحاق بن منصور قال : قلت لأحمد بن حنبل : ما الإسفار ؟ فقال : الإسفار أن يتضح الفجر ، فلا تشك فيه أنه قد طلع الفجر ، قال إسحاق كما قال .

وقال أبو بكر الأثرم : قلت لأبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل : كان أبو نعيم يقول في حديث رافع بن خديج : أسفروا بالفجر [ ص: 389 ] وكلما أسفرتم بها ، فهو أعظم للأجر فقال : نعم كله سواء ، إنما هو إذا تبين الفجر ، فقد أسفر .

قال أبو عمر : على هذا التأويل ينتفي التعارض والتدافع في الأحاديث في هذا الباب ، وهو أولى ما حملت عليه ، والأحاديث في التغليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أثبت من جهة النقل ، وعليها فقهاء الحجاز في صلاة الصبح عند أول الفجر الآخر .

ذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : أي حين أحب إليك أن أصلي الصبح إماما وخلوا ؟ قال : حين ينفجر الفجر الآخر ، ثم يطول في القراءة والركوع والسجود حتى ينصرف منها وقد تبلج النهار وتتآم الناس قال : ولقد بلغني عن عمر بن الخطاب أنه كان يصليها حين ينفجر الفجر الآخر ، وكان يقرأ في إحدى الركعتين بسورة يوسف .

قال أبو عمر : إنما ذكرنا هاهنا مذاهب العلماء في الأفضل من التغليس بالصبح والإسفار بها ، وقد ذكرنا أوقات الصلوات مجملة ومفسرة في باب ابن شهاب عن عروة ، وجرى ذكر وقت صلاة الصبح في مواضع من هذا الكتاب ، والحمد لله .

[ ص: 390 ] وفي هذا الحديث شهود النساء في الصلوات في الجماعة ، ويؤكد ذلك قوله : لا تمنعوا إماء الله مساجد الله .

وسيأتي هذا المعنى مبسوطا ممهدا في باب يحيى ، عن عمرة ، عن عائشة قولها : لو أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أحدث النساء بعده لمنعهن المسجد - إن شاء الله .

وأما قوله : متلففات بالفاء ، فهي رواية يحيى ، وتابعه جماعة ، ورواه كثير منهم متلفعات بالعين ، والمعنى واحد .

والمروط : أكسية الصوف ، وقد قيل : المرط : كساء صوف مربع سداه شعر .

وفي انصراف النساء من صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح ، وهن لا يعرفن من الغلس دليل على أن قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الصبح لم تكن بالسور الطوال جدا ; لأنه لو كان ذلك كذلك لم ينصرف إلا مع الإسفار .

وقد أجمع العلماء على أن لا توقيت في القراءة في الصلوات الخمس ، إلا أنهم يستحبون أن يكون الصبح والظهر أطول قراءة من غيرهما ، والغلس بقية الليل عند أهل اللغة ، ومن ذهب إلى هذا جعل آخر الليل طلوع الشمس ، وضوء الفجر من الشمس ، - والله أعلم - .

والغبش بالشين المنقوطة والباء : النور المختلط بالظلمة ، والغلس والغبش سواء ، إلا أنه لا يكون الغلس إلا في آخر الليل ، وقد يكون الغبش في أول الليل وفي آخره .

وأما الغبس بالباء والسين ، فغلط عندهم ، وبالله التوفيق .




الخدمات العلمية