الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            [ ما كان يؤذي به النضر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما نزل فيه ]

            والنضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن ، قصي ، كان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا ، فدعا فيه إلى الله تعالى وتلا فيها القرآن ، وحذر ( فيه ) قريشا ما أصاب الأمم الخالية ، خلفه في مجلسه إذا قام ، فحدثهم عن رستم السنديد ، وعن أسفنديار ، وملوك فارس ، ثم يقول والله ما محمد بأحسن حديثا مني ، وما حديثه إلا أساطير الأولين ، اكتتبها كما اكتتبتها . فأنزل الله فيه : وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما ونزل فيه إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ونزل فيه : ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم

            قال ابن هشام : الأفاك : الكذاب . وفي كتاب الله تعالى : ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون وقال رؤبة ( بن العجاج )

            :


            ما لامرئ أفك قولا إفكا

            وهذا البيت في أرجوزة له .

            قال ابن إسحاق : وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما - فيما بلغني - مع الوليد بن المغيرة في المسجد ، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم في المجلس ، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش ، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر بن الحارث ، فكلمه رسول الله حتى أفحمه ، ثم تلا عليه وعليهم : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون

            قال ابن هشام : حصب جهنم : كل ما أوقدت به . قال أبو ذؤيب الهذلي ، واسمه خويلد بن خالد :

            :


            فأطفئ ولا توقد ولا تك محضأ     لنار العداة أن تطير شكاتها

            وهذا البيت في أبيات له . ويروى ولا تك محضأ . قال الشاعر :

            :


            حضأت له ناري فأبصر ضوءها     وما كان لولا حضأة النار يهتدي

            [ مقالة ابن الزبعرى ، وما أنزل الله فيه ]

            قال ابن إسحاق : ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمي حتى جلس ، فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزبعرى : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد ، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم ؛ فقال عبد الله بن الزبعرى : أما والله لو وجدته لخصمته ، فسلوا محمدا : أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده ؟ فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيرا ، والنصارى تعبد عيسى ابن مريم ( عليهما السلام ) ، فعجب الوليد ، ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعرى ، ورأوا أنه قد احتج وخاصم فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم من قول ابن الزبعرى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن ) كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده ، إنهم إنما يعبدون الشياطين ، ومن أمرتهم بعبادته

            فأنزل الله تعالى عليه في ذلك : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون أي عيسى ابن مريم ، وعزيرا ، ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله ، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله .

            ونزل فيما يذكرون ، أنهم يعبدون الملائكة ، وأنها بنات الله : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون إلى قوله : ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين

            ونزل فيما ذكر من أمر عيسى ابن مريم أنه يعبد من دون الله ، وعجب الوليد ومن حضره من حجته وخصومته : ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون أي يصدون عن أمرك بذلك من قولهم

            ثم ذكر عيسى ابن مريم فقال : إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم أي ما وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى ، وإبراء الأسقام ، فكفى به دليلا على علم الساعة ، يقول : فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم فائدة قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذا الجدل الذي سلكوه باطل ، وهم يعلمون ذلك ; لأنهم قوم عرب ومن لغتهم أن " ما " لما لا يعقل ، فقوله إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون . إنما أريد بذلك ما كانوا يعبدونه من الأحجار التي كانت صور أصنام ، ولا يتناول ذلك الملائكة الذين زعموا أنهم يعبدونهم في هذه الصور ، ولا المسيح ، ولا عزيرا ولا أحدا من الصالحين ; لأن اللفظ لا يتناولهم ، لا لفظا ولا معنى ، فهم يعلمون أن ما ضربوه بعيسى ابن مريم من المثل جدل باطل ، كما قال الله تعالى ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون ثم قال إن هو أي عيسى إلا عبد أنعمنا عليه أي بنبوتنا وجعلناه مثلا لبني إسرائيل [ الزخرف : 59 ] أي دليلا على تمام قدرتنا على ما نشاء حيث خلقناه من أنثى بلا ذكر ، وقد خلقنا حواء من ذكر بلا أنثى ، وخلقنا آدم لا من هذا ولا من هذا ، وخلقنا سائر بني آدم من ذكر وأنثى ، كما قال في الآية الأخرى ولنجعله آية للناس أي أمارة ودليلا على قدرتنا الباهرة ورحمة منا [ مريم : 21 ] نرحم بها من نشاء . وفي الكامل قال: النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار ، يكنى أبا قائد ، وكان أشد قريش في تكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - والأذى له ولأصحابه . وكان ينظر في كتب الفرس ويخالط اليهود والنصارى ، وسمع بذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقرب مبعثه ، فقال : إن جاءنا نذير لنكونن أهدى من إحدى الأمم ، فنزلت : ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم ) ، الآية .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية