الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم )

قال أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - للمؤمنين به : " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " يقول : ليشهد بينكم " إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية " يقول : وقت الوصية " اثنان ذوا عدل منكم " يقول : ذوا رشد وعقل وحجى من المسلمين ، كما : -

12882 - حدثنا محمد بن بشار وعبيد الله بن يوسف الجبيري قالا حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب في قوله : " وأشهدوا ذوي عدل منكم " [ سورة الطلاق : 2 ] ، قال : ذوي عقل .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " ذوا عدل منكم " .

فقال بعضهم : عنى به : من أهل ملتكم . [ ص: 155 ]

ذكر من قال ذلك :

12883 - حدثنا حميد بن مسعدة قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب قال : شاهدان " ذوا عدل منكم " من المسلمين .

12884 - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال : حدثنا إسحاق بن سويد ، عن يحيى بن يعمر في قوله : " اثنان ذوا عدل منكم " من المسلمين .

12885 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب في قوله : " اثنان ذوا عدل منكم " قال : اثنان من أهل دينكم .

12886 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أشعث ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة قال : سألته ، عن قول الله - تعالى ذكره - : " اثنان ذوا عدل منكم " قال : من الملة .

12887 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن إدريس ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، بمثله إلا أنه قال فيه : من أهل الملة .

12888 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية ، عن هشام ، عن ابن سيرين قال : سألت عبيدة عن هذه الآية : " اثنان ذوا عدل منكم " قال : من أهل الملة .

12889 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة مثله . [ ص: 156 ]

12890 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا حسين ، عن زائدة ، عن هشام ، عن ابن سيرين قال : سألت عبيدة ، فذكر مثله .

12891 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ابن مهدي ، عن حماد ، عن ابن أبي نجيح وقال : حدثنا مالك بن إسماعيل ، عن حماد بن زيد ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .

12892 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " ذوا عدل منكم " قال : ذوا عدل من أهل الإسلام .

12893 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ذوا عدل منكم " قال : من المسلمين .

12894 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كان سعيد بن المسيب يقول : " اثنان ذوا عدل منكم " أي : من أهل الإسلام .

وقال آخرون : عنى بذلك : ذوا عدل من حي الموصي . وذلك قول روي عن عكرمة وعبيدة وعدة غيرهما .

واختلفوا في صفة " الاثنين " اللذين ذكرهما الله في هذه الآية ، ما هي ، وما هما؟

فقال بعضهم : هما شاهدان يشهدان على وصية الموصي .

وقال آخرون : هما وصيان .

وتأويل الذين زعموا أنهما شاهدان . قوله : " شهادة بينكم " ليشهد شاهدان [ ص: 157 ] ذوا عدل منكم على وصيتكم .

وتأويل الذين قالوا : " هما وصيان لا شاهدان " قوله : " شهادة بينكم " بمعنى الحضور والشهود لما يوصيهما به المريض ، من قولك : " شهدت وصية فلان " بمعنى حضرته .

قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بقوله : " اثنان ذوا عدل منكم " تأويل من تأوله بمعنى أنهما من أهل الملة ، دون من تأوله أنهما من حي الموصي .

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية ، لأن الله - تعالى ذكره - ، عم المؤمنين بخطابهم بذلك في قوله : " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم " فغير جائز أن يصرف ما عمه الله - تعالى ذكره - إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها . وإذ كان ذلك كذلك ، فالواجب أن يكون العائد من ذكره على العموم ، كما كان ذكرهم ابتداء على العموم .

وأولى المعنيين بقوله : " شهادة بينكم " اليمين ، لا " الشهادة " التي يقوم بها من عنده شهادة لغيره ، لمن هي عنده ، على من هي عليه عند الحكام . لأنا لا نعلم لله - تعالى ذكره - حكما يجب فيه على الشاهد اليمين ، فيكون جائزا صرف " الشهادة " في هذا الموضع ، إلى " الشهادة " التي يقوم بها بعض الناس عند الحكام والأئمة . [ ص: 158 ]

وفي حكم الآية في هذه ، اليمين على ذوي العدل وعلى من قام مقامهم ، باليمين بقوله " تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله " أوضح الدليل على صحة ما قلنا في ذلك ، من أن " الشهادة " فيه : الأيمان ، دون الشهادة التي يقضى بها للمشهود له على المشهود عليه وفساد ما خالفه .

فإن قال قائل : فهل وجدت في حكم الله - تعالى ذكره - يمينا تجب على المدعي ، فتوجه قولك في الشهادة في هذا الموضع إلى الصحة؟

فإن قلت : " لا " تبين فساد تأويلك ذلك على ما تأولت ، لأنه يجب على هذا التأويل أن يكون المقسمان في قوله : " فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما " هما المدعيان .

وإن قلت : " بلى " قيل لك : وفي أي حكم لله - تعالى ذكره - وجدت ذلك؟ قيل : وجدنا ذلك في أكثر المعاني . وذلك في حكم الرجل يدعي قبل رجل مالا فيقر به المدعى عليه قبله ذلك ، ويدعي قضاءه . فيكون القول قول رب الدين ، والرجل يعرف في يد الرجل السلعة ، فيزعم المعرف في يده أنه اشتراها من المدعي ، أو أن المدعي وهبها له ، وما أشبه ذلك مما يكثر إحصاؤه . وعلى هذا الوجه أوجب الله - تعالى ذكره - في هذا الموضع اليمين على المدعيين اللذين عثرا على الخائنين فيما خانا فيه . [ ص: 159 ]

قال أبو جعفر : واختلف أهل العربية في الرافع قوله : " شهادة بينكم " وقوله : " اثنان ذوا عدل منكم " .

فقال بعض نحويي البصرة : معنى قوله : " شهادة بينكم " شهادة اثنين ذوي عدل ، ثم ألقيت " الشهادة " وأقيم " الاثنان " مقامها ، فارتفعا بما كانت " الشهادة " به مرتفعة لو جعلت في الكلام . قال : وذلك في حذف ما حذف منه ، وإقامة ما أقيم مقام المحذوف نظير قوله : واسأل القرية [ سورة يوسف : 82 ] ، وإنما يريد : واسأل أهل القرية ، وانتصبت " القرية " بانتصاب " الأهل " وقامت مقامه ، ثم عطف قوله : " أو آخران " على " الاثنين " .

وقال بعض نحويي الكوفة : رفع " الاثنان " ب " الشهادة " أي : ليشهدكم اثنان من المسلمين ، أو آخران من غيركم .

وقال آخر منهم : رفعت " الشهادة " ب " إذا حضر " . وقال : إنما رفعت بذلك ، لأنه قال : " إذا حضر " فجعلها " شهادة " محذوفة مستأنفة ، ليست بالشهادة التي قد رفعت لكل الخلق ، لأنه قال - تعالى ذكره - : " أو آخران من غيركم " وهذه شهادة لا تقع إلا في هذا الحال ، وليست مما يثبت .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : " الشهادة " مرفوعة بقوله : " إذا حضر " لأن قوله : " إذا حضر " [ ص: 160 ] بمعنى : عند حضور أحدكم الموت ، و " الاثنان " مرفوع بالمعنى المتوهم ، وهو : أن يشهد اثنان فاكتفى من قيل : " أن يشهد " بما قد جرى من ذكر " الشهادة " في قوله : " شهادة بينكم " .

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن " الشهادة " مصدر في هذا الموضع ، و " الاثنان " اسم ، والاسم لا يكون مصدرا . غير أن العرب قد تضع الأسماء مواضع الأفعال . فالأمر وإن كان كذلك ، فصرف كل ذلك إلى أصح وجوهه ما وجدنا إليه سبيلا أولى بنا من صرفه إلى أضعفها .

التالي السابق


الخدمات العلمية