الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( والمستحب لمن يصلي إلى سترة أن يدنو منها لما روي عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان صلاته } والمستحب أن يكون بينه وبينها قدر ثلاثة أذرع لما روى سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وبينه وبين القبلة قدر ممر العنز قدر ثلاثة أذرع } فإن كان يصلي في موضع ليس بين يديه بناء فالمستحب أن ينصب بين يديه عصا لما روى أبو جحيفة رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في حلة حمراء فركز عنزة فجعل يصلي إليها بالبطحاء يمرون الناس من ورائها ، الكلب والحمار والمرأة } والمستحب أن يكون ما يستره قدر مؤخرة الرحل لما روى طلحة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل ولا يبال من مر وراء ذلك } قال عطاء مؤخرة الرحل ذراع ، فإن لم يجد عصا فليخط بين يديه خطا إلى القبلة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا فإن لم يجد شيئا فلينصب عصا فإن لم يجد عصا فليخط خطا ولا يضره ما مر بين يديه } ويكره أن يصلي وبين يديه رجل يستقبله بوجهه . لما روي أن عمر رضي الله عنه " رأى رجلا يصلي ورجل جالس مستقبله فضربهما بالدرة " فإن صلى ومر بين يديه مار دفعه ولم تبطل صلاته بذلك . لقوله صلى الله عليه وسلم { لا يقطع صلاة المرء شيء وادرءوا ما استطعتم ) } .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث سهل بن أبي حثمة صحيح رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح ورواه الحاكم في المستدرك ، وقال : حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم ، وحديث سهل بن سعد رواه البخاري ومسلم ولفظهما : [ ص: 225 ] { كان بين مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الجدار ممر الشاة } وحديث أبي جحيفة رواه البخاري ومسلم أيضا . وحديث طلحة رواه مسلم لكن وقع في المهذب : " ولا يبالي من وراء ذلك " والذي في صحيح مسلم وغيره " من مر وراء ذلك " بزيادة لفظة ( مر ) وفي رواية الترمذي " من مر من وراء ذلك " وحديث أبي هريرة في الخط رواه أبو داود وابن ماجه . قال البغوي وغيره : هو حديث ضعيف ، وروى أبو داود في سننه عن سفيان بن عيينة تضعيفه ، وأشار إلى تضعيفه الشافعي والبيهقي وغيرهما . قال البيهقي : هذا الحديث أخذ به الشافعي في القديم وسنن حرملة وقال في البويطي : ولا يخط بين يديه خطا إلا أن يكون في ذاك حديث ثابت فيتبع . قال البيهقي : وإنما توقف الشافعي في الحديث لاختلاف الرواة على إسماعيل بن أمية أحد رواته . وقال غير البيهقي : هو ضعيف لاضطرابه . وأما حديث { لا يقطع الصلاة شيء وادرءوا ما استطعتم فإنما هو شيطان } فرواه أبو داود بإسناد ضعيف من رواية أبي سعيد الخدري وأما قوله قال عطاء " مؤخرة الرحل ذراع " فرواه عنه أبو داود في سننه بإسناد صحيح ، وهو عطاء بن أبي رباح .

                                      وأما ألفاظ الفصل ففيه سهل بن أبي حثمة بفتح الحاء المهملة وإسكان المثلثة ، واسم أبي حثمة عبد الله ، وقيل : عامر بن ساعدة الأنصاري المدني ، كنيته سهل أبو يحيى ، وقيل أبو محمد ، توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان سنين ، وحفظ جملة أحاديث وأما سهل بن سعد فهو أبو العباس سهل بن سعد بن مالك بن خالد الأنصاري الساعدي المدني ، منسوب إلى ساعدة أحد أجداده ، توفي بالمدينة سنة إحدى وتسعين وهو ابن مائة سنة . قال محمد بن سعد : هو آخر من مات من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، ليس بيننا في ذلك اختلاف وأما أبو جحيفة فسبق بيانه في باب الأذان ، وطلحة سبق في أول كتاب الصلاة وعمر في نية الوضوء وأبو هريرة في المياه وعطاء في الحيض . وفي الذراع لغتان التذكير والتأنيث وهو الأفصح الأكثر .

                                      قوله : " وممر العنز قدر ثلاثة أذرع " هو من كلام المصنف لا من الحديث ، وقوله " فركز عنزة فهو بفتح النون ، وهي عصا نحو نصف رمح [ ص: 226 ] في أسفلها زج كزج الرمح في أسفله ، والحلة ثوبان إزار ورداء ، قال أهل اللغة : لا تكون إلا ثوبين ، ومؤخرة الرحل سبق بيانها في الباب ، والبطحاء بالمد هي بطحاء مكة ويقال فيها الأبطح ، وهو موضع معروف على باب مكة ، وادرءوا ما استطعتم ، أي : ادفعوا ، وقوله : " يمرون الناس من ورائها " كذا وقع في المهذب ، والذي في الأحاديث الصحيحة يمر الناس ، وهذا هو المشهور في اللغة ، وإن كان الذي في المهذب لغة قليلة ضعيفة ، وهي لغة أكلوني البراغيث .

                                      ( أما أحكام الفصل ) ففيه مسائل :

                                      ( إحداها ) السنة للمصلي أن يكون بين يديه سترة من جدار أو سارية أو غيرهما ويدنو منها ، ونقل الشيخ أبو حامد الإجماع فيه ،



                                      والسنة أن لا يزيد ما بينه وبينها على ثلاثة أذرع ، فإن لم يكن حائط ونحوه غرز عصا ونحوها أو جمع متاعه أو رحله ويكون ارتفاع العصا ونحوها ثلثي ذراع فصاعدا ، وهو قدر مؤخرة الرحل على المشهور ، وقيل ذراع كما حكاه عن عطاء وكذا قاله الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب



                                      فإن لم يجد شيئا شاخصا فهل يستحب أن يخط بين يديه ؟ نص الشافعي في القديم وسنن حرملة أنه يستحب ، وفي البويطي لا يستحب .

                                      وللأصحاب طرق :

                                      ( أحدها ) وبه قطع المصنف والشيخ أبو حامد والأكثرون " يستحب قولا واحدا " ونقل في البيان اتفاق الأصحاب عليه ، ونقله الرافعي عن الجمهور ( والطريق الثاني ) لا يستحب ، وبه قطع إمام الحرمين والغزالي وغيرهما ( والثالث ) فيه قولان ، فإن قلنا بالخط ففي كيفيته اختلاف ، قال أحمد بن حنبل والحميدي شيخ البخاري ، وصاحب الشافعي : ( يجعله مثل الهلال ) وقال أبو داود في سننه : سمعت مسددا يقول : قال ابن داود " الخط بالطول " وقال المصنف : يخط بين يديه خطا إلى القبلة ، وقال غيره : يخطه يمينا وشمالا كالجنازة ، والمختار استحباب الخط ; لأنه - وإن لم يثبت الحديث - ففيه تحصيل حريم للمصلي ، وقد قدمنا اتفاق العلماء على العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال دون الحلال والحرام ، وهذا من نحو فضائل الأعمال ، والمختار في كيفيته ما ذكر المصنف . وممن جزم باستحباب [ ص: 227 ] الخط القاضي أبو حامد المروزي والشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والبندنيجي ، وأشار إليه البيهقي وغيره . قال الغزالي والبغوي وغيرهما : وإذا لم يجد شاخصا بسط مصلاه .



                                      ( فرع ) قال الشافعي رحمه الله في البويطي : ولا يستتر بامرأة ولا دابة ، فأما قوله في المرأة فظاهر ; لأنها ربما شغلت ذهنه . وأما الدابة ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يعرض راحلته فيصلي إليها } زاد البخاري في روايته : " وكان ابن عمر يفعله " ولعل الشافعي رحمه الله لم يبلغه هذا الحديث ، وهو حديث صحيح لا معارض له ، فيتعين العمل به لا سيما وقد أوصانا الشافعي رحمه الله بأنه إذا صح الحديث فهو مذهبه .



                                      ( فرع ) المعتبر في السترة أن يكون طولها كمؤخرة الرحل وأما عرضها فلا ضابط فيه ، بل يكفي الغليظ والدقيق عندنا . وقال مالك : أقله كغلظ الرمح تمسكا بحديث العنزة ، ودليلنا حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { يجزئ من السترة مثل مؤخرة الرحل ولو بدقة شعرة } . وعن سبرة بن معبد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { استتروا في صلاتكم ولو بسهم } رواه الحاكم في المستدرك وقال حديثان صحيحان ، الأول على شرط البخاري ومسلم ، والثاني على شرط مسلم .



                                      ( فرع ) قال البغوي وغيره : يستحب أن يجعل السترة على حاجبه الأيمن أو الأيسر لما روى المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال { ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر ولا يصمد له } رواه أبو داود ولم يضعفه ، لكن في إسناده الوليد بن كامل وضعفه جماعة . قال البيهقي ( تفرد به الوليد ) وقد قال البخاري : ( عنده عجائب ) .



                                      ( المسألة الثانية ) إذا صلى إلى سترة حرم على غيره المرور بينه وبين السترة ، ولا يحرم وراء السترة . وقال الغزالي " يكره ولا يحرم " والصحيح [ ص: 228 ] بل الصواب أنه حرام ، وبه قطع البغوي والمحققون ، واحتجوا بحديث أبي الجهيم الأنصاري الصحابي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه ؟ لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه } رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية رويناها في كتاب الأربعين للحافظ عبد القادر الرهاوي : { لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم } وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله ، فإنما هو شيطان } رواه البخاري ومسلم ، قال أصحابنا : " ويستحب للمصلي دفع من أراد المرور لحديث أبي سعيد المذكور " وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه فإن أبى فليقاتله فإن معه القرين } رواه مسلم . ويدفعه دفع الصائل بالأسهل ثم الأسهل ويزيد بحسب الحاجة وإن أدى إلى قتله ، فإن مات منه فلا ضمان فيه كالصائل . قال الرافعي وكذا ليس لأحد أن يمر بينه وبين الخط على الصحيح من الوجهين وبه قطع الجمهور كالعصا . أما إذا لم يكن بين يديه سترة أو كانت وتباعد عنها فوجهان ، أحدهما : له الدفع لتقصير المار ، وأصحهما ليس له الدفع لتقصيره بترك السترة ولمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم { : إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره } ولا يحرم في هذه الحالة المرور بين يديه ، ولكن يكره .



                                      ( فرع ) إذا وجد الداخل فرجة في الصف الأول فله أن يمر بين يدي الصف الثاني ويقف فيها لتقصير أهل الصف الثاني بتركها .



                                      ( فرع ) قال إمام الحرمين : النهي عن المرور ، والأمر بالدفع إنما هو إذا وجد المار سبيلا سواه ، فإن لم يجد وازدحم الناس فلا نهي عن المرور ولا يشرع الدفع وتابع الغزالي إمام الحرمين على هذا . قال الرافعي وهو مشكل ، ففي صحيح البخاري خلافه ، وأكثر كتب الأصحاب ساكتة عن التقييد بما إذا وجد سواه سبيلا .

                                      ( قلت ) : الحديث الذي في صحيح البخاري عن أبي صالح السمان قال [ ص: 229 ] { رأيت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه في يوم جمعة يصلي إلى شيء يستره من الناس ، فأراد شاب أن يجتاز بين يديه ، فدفع أبو سعيد في صدره ، فنظر الشاب فلم يجد مساغا إلا بين يديه فعاد ليجتاز فدفعه أبو سعيد أشد من الأول فنال من أبي سعيد ثم دخل على مروان فشكا إليه ما لقي من أبي سعيد ، ودخل أبو سعيد خلفه على مروان ، فقال : ما لك ولابن أخيك يا أبا سعيد ؟ قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان } رواه البخاري ومسلم .



                                      ( المسألة الثالثة ) إذا صلى إلى سترة فمر بينه وبينها رجل أو امرأة أو صبي أو كافر أو كلب أسود أو حمار أو غيرها من الدواب لا تبطل صلاته عندنا قال الشيخ أبو حامد والأصحاب : وبه قال عامة أهل العلم إلا الحسن البصري فإنه قال : " تبطل بمرور المرأة والحمار والكلب الأسود " وقال أحمد وإسحاق " تبطل بمرور الكلب الأسود فقط " واحتج للحسن ولهما في الكلب بحديث عبد الله بن الصامت عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { : إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود قال قلت : يا أبا ذر ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر ؟ قال : يا ابن أخي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألتني فقال : الكلب الأسود شيطان } رواه مسلم وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب } رواه مسلم ، وعن ابن عباس رفعه { يقطع الصلاة المرأة الحائض والكلب } رواه أبو داود بإسناد صحيح .

                                      وعن عكرمة عن ابن عباس قال : أحسبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إذا صلى أحدكم إلى غير سترة فإنه يقطع صلاته الحمار والخنزير واليهودي والمجوسي والمرأة ، ويجزئ عنه إذا مروا بين يديه على قذفة بحجر } رواه أبو داود وضعفه وجعله منكرا ، وروى أبو داود أحاديث كثيرة من هذا النوع ضعيفة ، واحتج لأصحابنا والجمهور بحديث مسروق قال : { ذكروا عند عائشة رضي الله عنها ما يقطع الصلاة فذكروا الكلب والحمار [ ص: 230 ] والمرأة ، فقالت : شبهتمونا بالحمر والكلاب ، لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة } رواه البخاري ومسلم وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : { أقبلت راكبا على حمار أتان ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس يمينا إلى غير جدار ، فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد } رواه البخاري ومسلم . وعن الفضل بن عباس رضي الله عنهما قال : { أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في بادية لنا فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة وحمارة لنا وكلبة تعبثان بين يديه ، فما بالى ذلك } رواه أبو داود بإسناد حسن . قال أبو داود : ( وإذا اختلف الخبران عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى ما عمل به أصحابه ) .

                                      وعن ابن عباس قال : { كنت رديف الفضل على أتان فجئنا والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه بمنى فنزلنا عنها فوصلنا الصف فمرت بين أيديهم فلم تقطع صلاتهم } رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح .

                                      وأما الجواب عن الأحاديث الصحيحة التي احتجوا بها فمن وجهين ، أصحهما وأحسنهما ما أجاب به الشافعي والخطابي والمحققون من الفقهاء والمحدثين أن المراد بالقطع القطع عن الخشوع والذكر للشغل بها والالتفات إليها لا أنها تفسد الصلاة . قال البيهقي رحمه الله : ويدل على صحة هذا التأويل أن ابن عباس أحد رواة قطع الصلاة بذلك . ثم روي عن ابن عباس أنه حمله على الكراهة ، فهذا الجواب هو الذي نعتمده ، وأما ما يدعيه أصحابنا وغيرهم من النسخ فليس بمقبول ، إذ لا دليل عليه ، ولا يلزم من كون حديث ابن عباس في حجة الوداع وهي في آخر الأمر أن يكون ناسخا ، إذ يمكن كون أحاديث القطع بعده . وقد علم وتقرر في الأصول أن مثل هذا لا يكون ناسخا ، مع أنه لو احتمل النسخ لكان الجمع بين الأحاديث مقدما عليه ، إذ ليس فيه رد شيء منها ، وهذه أيضا قاعدة معروفة ، والله أعلم .



                                      ( المسألة الرابعة ) يكره أن يصلي وبين يديه رجل أو امرأة يستقبله ويراه ، وقد كرهه عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما ; ولأنه [ ص: 231 ] يشغل القلب غالبا ، فكره كما كره النظر إلى ما يلهيه ، كثوب له أعلام ، ورفع البصر إلى السماء وغير ذلك مما ثبتت فيه الأحاديث الصحيحة ، وقال البخاري في صحيحه : كره عثمان رضي الله عنه أن يستقبل الرجل وهو يصلي ، قال البخاري : وإنما هذا إذا اشتغل به ، فأما إذا لم يشتغل به فقد قال زيد بن ثابت : ( ما باليت أن الرجل لا يقطع صلاة الرجل ) ثم احتج البخاري بحديث عائشة المذكور في المسألة الثالثة ، وليس في حديث عائشة ما يخالف ما ذكرناه أولا ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي وهي مستقبلته ، بل كانت مضطجعة ، واضطجاعها في ظلام الليل ، فوجودها كعدمه ، إذ لا ينظر إليها ولا يستقبلها .



                                      ( فرع ) لا تكره الصلاة إلى النائم وتكره إلى المتحدثين الذين يشتغل بهم فأما عدم الكراهة في النائم فلحديث عائشة السابق ، وأما الكراهة في المتحدث فلشغل القلب ولما ذكرناه في المسألة الرابعة ، وأما حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث } فرواه أبو داود ولكنه ضعيف باتفاق الحفاظ ، وممن ضعفه أبو داود ، وفي إسناده رجل ، مجهول لم يسم ، قال الخطابي : هذا الحديث لا يصح ، وقد ثبت حديث عائشة قال : " فأما الصلاة إلى المتحدثين فقد كرهها الشافعي وأحمد ; لأن كلامهم يشغل المصلي عن صلاته " .



                                      . ( فرع ) إذا صلى الرجل وبجنبه امرأة لم تبطل صلاته ولا صلاتها سواء كان إماما أو مأموما هذا مذهبنا وبه قال مالك والأكثرون ، وقال أبو حنيفة إن لم تكن المرأة في صلاة أو كانت في صلاة غير مشاركة له في [ ص: 232 ] صلاته صحت صلاته وصلاتها ، فإن كانت في صلاة يشاركها فيها - ولا تكون مشاركة له عند أبي حنيفة إلا إذا نوى الإمام إمامة النساء - فإذا شاركته فإن وقفت بجنب رجل بطلت صلاة من إلى جنبيها ، ولا تبطل صلاتها ولا صلاة من يلي الذي يليها ; لأن بينه وبينها حاجزا ، وإن كانت في صف بين يديه بطلت صلاة من يحاذيها من ورائها ، ولم تبطل صلاة من يحاذي محاذيها ; لأن دونه حاجزا . فإن صف نساء خلف الإمام وخلفهن صف رجال بطلت صلاة الصف الذي يليهن ، قال : وكان القياس أن لا تبطل صلاة من وراء هذا الصف من الصفوف بسبب الحاجز ، ولكن نقول تبطل صفوف الرجال وراءه ، ولو كانت مائة صف استحسانا ، فإن وقفت بجنب الإمام بطلت صلاة الإمام ; لأنها إلى جنبه ومذهبه أنها إذا بطلت صلاة الإمام بطلت صلاة المأمومين أيضا ، وتبطل [ صلاتها ] أيضا ; لأنها من جملة المأمومين .

                                      وهذا المذهب ضعيف الحجة ظاهر التحكم والتمسك بتفصيل لا أصل له ، وعمدتنا أن الأصل أن الصلاة صحيحة حتى يرد دليل صحيح شرعي في البطلان ، وليس لهم ذلك ، وينضم إلى هذا حديث عائشة رضي الله عنها المذكور في المسألة الثالثة . فإن قالوا : نحن نقول به ; لأنها لم تكن مصلية قال أصحابنا نقول : إذا لم تبطل وهي في غير عبادة ، ففي العبادة أولى وقاس أصحابنا على وقوفها في صلاة الجنازة فإنها لا تبطل عندهم ، والله أعلم بالصواب وله الحمد والنعمة والمنة ، وبه التوفيق والهداية والعصمة .




                                      الخدمات العلمية