الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 638 ] بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الضحى

وهي مكية لا خلاف في ذلك بين الرواة.

قوله عز وجل:

والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث

تقدم تفسير "الضحى" بأنه سطوع الضوء وعظمه، وقال قتادة : الضحى هنا، النهار كله، و"سجى" معناه سكن واستقر ليلا تاما، وقال بعض المفسرين "سجى" معناه أقبل، وقال آخرون:

معناه أدبر والأول أصح، ومنه قول الشاعر :


يا حبذا القمراء والليل الساج وطرق مثل ملاء النساج



ويقال "بحر ساج" أي ساكن ومنه قول الأعشى:


وما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمكم     وبحرك ساج لا يواري الدعامصا



[ ص: 639 ] "وطرف ساج" إذا كان ساكنا غير مضطرب النظر.

وقرأ جمهور الناس: "ودعك" بشد الدال، من التوديع، وقرأ عروة بن الزبير وابنه هشام : "ودعك" بتخفيف الدال، بمعنى تركك و"قلى" معناه أبغض واختلف في سبب هذه الآية فقال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: أبطأ الوحي مرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة -اختلفت في حدها الروايات- حتى شق ذلك عليه، فجاءت امرأة من الكفار، وهي أم جميل امرأة أبي لهب، فقالت: يا محمد، ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فنزلت الآية بسبب ذلك.

وقال ابن وهب عن رجال عن عروة بن الزبير أن خديجة رضي الله عنها قالت: له ما أرى الله إلا قد خلاك لإفراط جزعك لبطء الوحي عنك، فنزلت الآية بسبب ذلك، وقال زيد بن أسلم : إنما احتبس عنه جبريل لجرو كلب كان في بيته.

وقوله تعالى: وللآخرة خير لك من الأولى يحتمل أن يريد الدارين: الدنيا والآخرة، وهذا تأويل ابن إسحاق وغيره، ويحتمل أن يريد حاليه في الدنيا قبل نزول السورة وبعدها، فوعده الله تعالى -على هذا التأويل- بالنصر والظهور، وكذلك قوله تعالى: ولسوف يعطيك ربك فترضى ، قال جمهور الناس: ذلك في الآخرة، وقال بعض أهل البيت هذه أرجى آية في القرآن لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى وواحد من أمته في النار، وقال ابن عباس : رضاه أن لا يدخل أحد من أهل بيته في النار، وقال ابن عباس أيضا: رضاه أن الله تعالى وعده بألف قصر في الجنة بما يحتاج إليه من النعم والخدم، وقال [ ص: 640 ] بعض العلماء: رضاه في الدنيا بفتح مكة وغيره، وفي مصحف ابن مسعود : "ولسيعطيك".

ثم وقفه تعالى على المراتب التي درجه فيها بإنعامه عليه فقال: ألم يجدك يتيما فآوى والمعنى: ألم يجدك تحفي الله وإنعامه، ويتمه كان فقد أبيه وكونه في كنف عمه أبي طالب، وقيل لجعفر بن محمد الصادق: لم يتم النبي صلى الله عليه وسلم من أبويه؟ قال: لئلا يكون عليه حق لمخلوق. وقرأ الأشهب العقيلي : "فأوى" بالقصر بمعنى: رحم، يقال: أويت لفلان، أي رحمته. وقوله تعالى: ووجدك ضالا أي: وجدك إنعامه بالنبوة والرسالة على غير الطريق التي أنت عليها في نبوتك، فهدى، هذا قول الحسن والضحاك وفرقة.

و"الضلال" مختلف، فمنه البعيد ومنه القريب، فالبعيد ضلال الكفار الذين يعبدون الأصنام، ويحتجون لذلك ويغتبطون به، وكان هذا الضلال الذي ذكره الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أقرب ضلال، وهو الكون واقفا لا يميز المهيع، لا أنه تمسك بطريق أحد، بل كان يرتاد وينظر. وقال السدي : أقام على أمر قومه أربعين سنة، وقيل: معنى "ووجدك ضالا": تنسب إلى الضلال، وقال الكلبي : ووجدك في قوم ضلال، فكأنك واحد منهم.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعبد صنما قط، ولكنه أكل ذبائحهم حسب حديث زيد بن عمرو في أسفل بلدح، وجرى على يسير من أمرهم، وهو مع ذلك ينظر خطأ ما هم عليه، ودفع من عرفات وخالفهم في أشياء، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هو ضلاله وهو صغير في شعاب مكة، ثم رده الله تعالى إلى جده عبد المطلب، وقيل: هو ضلاله من حليمة مرضعته، وقال الترمذي ، وعبد العزيز بن يحيى: "ضالا" خامل الذكر لا يعرفك الناس، فهداهم إليك ربك، والصواب أنه ضلال من توقف لا يدري، كما [ ص: 641 ] قال عز وجل: و ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان . وقال ثعلب: قال هو تزويجه عليه السلام بنته في الجاهلية، ونحو ذلك.

و"العائل": الفقير، وقرأ اليماني "عيلا" بشد الياء المكسورة، ومنه قول الشاعر :


وما يدري الفقير متى غناه     وما يدري الغني متى يعيل



وأعال: كثر عياله، وعال: افتقر، ومنه قول الله عز وجل: وإن خفتم عيلة وقوله تعالى: "فأغنى" قال مقاتل : معناه: رضاك بما أعطاك من الرزق، وقيل: فقيرا إليه فأغناك به، والجمهور على أنه فقر المال وغناه، والمعنى في النبي صلى الله عليه وسلم أنه أغنى الأغنياء بالصبر والقناعة وقد حببا وقيل أغني بالكفاف لتصرفه في مال خديجة رضي الله عنها، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قط كثير المال، رفعه الله عن ذلك، وقال: "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس".

ولما عدد الله تعالى عليه هذه النعم الثلاث وصاه بثلاث وصايا، في كل نعمة وصية مناسبة لها، فبإزاء قوله تعالى: ألم يجدك يتيما فآوى قوله تعالى: فأما اليتيم فلا تقهر ، وبإزاء قوله تعالى: ووجدك ضالا فهدى قوله تعالى وأما السائل فلا تنهر ، هذا على قول من قال: إن السائل هنا هو السائل عن العلم والدين، وليس بسائل المال، وهو قول الحسن وأبي الدرداء وغيرهما، وبإزاء قوله تعالى: ووجدك عائلا فأغنى قوله تعالى: وأما بنعمة ربك فحدث ، وأما من قال إن السائل سائل المال المحتاج، وهو قول الفراء وجماعة فقد جعلها بإزاء قوله تعالى: ووجدك عائلا [ ص: 642 ] فأغنى ، وجعل قوله تعالى: وأما بنعمة ربك فحدث بإزاء قوله تعالى: ووجدك ضالا فهدى . وقال إبراهيم بن أدهم : نعم القوم السؤال، يحملون زادنا إلى الآخرة. وقوله تعالى: "فلا تنهر" معناه: رد ردا جميلا، إما بعطاء وإما بقول حسن. وفي مصحف ابن مسعود : "ووجدك عديما فأغنى"، وقرأ ابن مسعود ، والشعبي ، وإبراهيم التيمي : "فأما اليتيم فلا تكهر" بالكاف، قال الأخفش : هي بمعنى القهر، ومنه قول الأعرابي: "وقاكم الله سطوة القادر وملكة الكاهر" وقال أبو حاتم : لا أظنها بمعنى القهر; لأنه قد قال الأعرابي الذي بال في المسجد: "فما كهرني النبي صلى الله عليه وسلم، فإنما هي بمعنى الانتهار.

وأمره الله تعالى بالتحدث بنعمته، فقال مجاهد ، والكلبي : معناه: بث القرآن وبلغ ما أرسلت به، وقال آخرون: بل هو عموم في جميع النعم، وكان بعض الصالحين يقول: لقد أعطاني الله كذا وكذا، ولقد صليت البارحة كذا وكذا، وذكرت الله تعالى كذا، فقيل له: إن مثلك لا يقول هذا، فقال إن الله تعالى يقول: وأما بنعمة ربك فحدث وأنتم تقولون لا تحدث، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "التحدث بالنعم شكر"، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أسديت إليه نعمة فذكرها فقد شكرها، ومن سترها فقد كفرها"، ونصب "اليتيم" بـ "تقهر"، والتقدير: مهما يكن من شيء فلا تقهر اليتيم.

كمل تفسير سورة [الضحى] والحمد لله رب العالمين.

التالي السابق


الخدمات العلمية