الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل فالرسول صلى الله عليه وسلم بين الأصول الموصلة إلى الحق [ ص: 440 ] أحسن بيان وبين الآيات الدالة على الخالق سبحانه وأسمائه الحسنى وصفاته العليا ووحدانيته على أحسن وجه كما قد بسط في مواضع .

                وأما أهل البدع من أهل الكلام والفلسفة ونحوهم فهم لم يثبتوا الحق بل أصلوا أصولا تناقض الحق . فلم يكفهم أنهم لم يهتدوا ولم يدلوا على الحق حتى أصلوا أصولا تناقض الحق ورأوا أنها تناقض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقدموها على ما جاء به الرسول .

                ثم تارة يقولون : الرسول جاء بالتخييل وتارة يقولون : جاء بالتأويل وتارة يقولون : جاء بالتجهيل .

                فالفلاسفة ومن وافقهم أحيانا يقولون : خاطب الجمهور بالتخييل لم يقصد إخبارهم بالأمر على ما هو عليه بل أخبرهم بخلاف ما الأمر عليه ليتخيلوا ما ينفعهم . وهذا قول من يعرف بأنه كان يعرف الحق كابن سينا وأمثاله ويقولون : الذي فعله من التخييل غاية ما يمكن .

                ومنهم من يقول : لم يعرف الحق بل تخيل وخيل كما يقوله الفارابي وأمثاله . ويجعلون الفيلسوف أفضل من النبي ويجعلون النبوة من جنس المنامات .

                [ ص: 441 ] وأما أكثر المتكلمين فيقولون : بل لم يقصد أن يخبر إلا بالحق لكن بعبارات لا تدل وحدها عليه بل تحتاج إلى التأويل ليبعث الهمم على معرفته بالنظر والعقل ويبعثها على تأويل كلامه ليعظم أجرها .

                والملاحدة يسلكون مسلك التأويل ويفتحون باب القرمطة . وهؤلاء يجوزون التأويل مع الخاصة .

                وأما أهل التخييل فيقولون : الخاصة قد عرفوا أن مراده التخييل للعامة فالتأويل ممتنع .

                والفريقان يسلكون مسلك إلجام العوام عن التأويل لكن أولئك يقولون : لها تأويل يفهمه الخاصة .

                وهي طريقة الغزالي في " الإلجام " . استقبح أن يقال : كذبوا للمصلحة . وهو أيضا لا يرى تأويل الأعمال كالقرامطة بل تأويل الخبر عن الملائكة وعن اليوم الآخر . وكذلك طائفة من الفلاسفة ترى التأويل في ذلك . وهذا مخالف لطريقة أهل التخييل .

                وقد ذكر الغزالي هذا عنهم في " الإحياء " لما ذكر إسرافهم في التأويل وذكره في مواضع كما حكى كلامه في " السبعينية " وغيرها .

                [ ص: 442 ] والقسم الثالث الذين يقولون : هذا لا يعلم معناه إلا الله أو له تأويل يخالف ظاهره لا يعلمه إلا الله . فهؤلاء يجعلون الرسول وغيره غير عالمين بما أنزل الله . فلا يسوغون التأويل لأن العلم بالمراد عندهم ممتنع . ولا يستجيزون القول بطريقة التخييل لما فيها من التصريح بكذب الرسول . بل يقولون : خوطبوا بما لا يفهمونه ليثابوا على تلاوته والإيمان بألفاظه وإن لم يفهموا معناه . يجعلون ذلك تعبدا محضا على رأي المجبرة الذين يجوزون التعبد بما لا نفع فيه للعامل بل يؤجر عليه .

                والكلام على هؤلاء وفساد قولهم مذكور في مواضع . والمقصود هنا أن الذي دعاهم إلى ذلك ظنهم أن المعقول يناقض ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم أو ظاهر ما أخبر به الرسول . وقد بسط الكلام على رد هذا في مواضع وبين أن العقل لا يناقض السمع وأن ما ناقضه فهو فاسد . وبين بعد هذا أن العقل موافق لما جاء به الرسول شاهد له ومصدق له .

                لا يقال : إنه غير معارض فقط بل هو موافق مصدق فأولئك كانوا يقولون : هو مكذب مناقض . بين أولا أنه لا يكذب ولا يناقض ثم بين ثانيا أنه مصدق موافق .

                [ ص: 443 ] وأما هؤلاء فيبين أن كلامهم الذي يعارضون به الرسول باطل لا تعارض فيه . ولا يكفي كونه باطلا لا يعارض بل هو أيضا مخالف لصريح العقل . فهم كانوا يدعون أن العقل يناقض النقل .

                فيبين أربع مقامات : أن العقل لا يناقضه . ثم يبين أن العقل يوافقه . ويبين أن عقلياتهم التي عارضوا بها النقل باطلة . ويبين أيضا أن العقل الصريح يخالفهم .

                ثم لا يكفي أن العقل يبطل ما عارضوا به الرسول بل يبين أن ما جعلوه دليلا على إثبات الصانع إنما يدل على نفيه . فهم أقاموا حجة تستلزم نفي الصانع وإن كانوا يظنون أنهم يثبتون بها الصانع .

                والمقصود هنا أن كلامهم الذي زعموا أنهم أثبتوا به الصانع إنما يدل على نفي الصانع وتعطيله . فلا يكفي فيه أنه باطل لم يدل على الحق ; بل دل على الباطل الذي يعلمون هم وسائر العقلاء أنه باطل .

                ولهذا كان يقال في أصولهم " ترتيب الأصول في تكذيب الرسول " ويقال أيضا هي " ترتيب الأصول في مخالفة الرسول والمعقول " . جعلوها أصولا للعلم بالخالق وهي أصول تناقض العلم به . فلا يتم العلم بالخالق إلا مع اعتقاد نقيضها . وفرق بين الأصل والدليل المستلزم للعلم بالرب وبين المناقض المعارض للعلم بالرب .

                [ ص: 444 ] فالمتفلسفة يقولون إنهم أثبتوا واجب الوجود . وهم لم يثبتوه بل كلامهم يقتضي أنه ممتنع الوجود . والجهمية والمعتزلة ونحوهم يقولون إنهم أثبتوا القديم المحدث للحوادث وهم لم يثبتوه بل كلامهم يقتضي أنه ما ثم قديم أصلا . وكذلك الأشعرية والكرامية وغيرهم ممن يقول إنه أثبت العلم بالخالق فهم لم يثبتوه لكن كلامهم يقتضي أنه ما ثم خالق .

                وهذه الأسماء الثلاثة هي التي يظهرها هؤلاء واجب الوجود والقديم والصانع أو الخالق ونحو ذلك .

                ثم إنه من المعلوم بضرورة العقل أنه لا بد في الوجود من موجود واجب بنفسه قديم أزلي محدث للحوادث . فإذا كان هذا معلوما بالفطرة والضرورة والبراهين اليقينية وكانت أصولهم التي عارضوا بها الرسول تناقض هذا دل على فسادها جملة وتفصيلا .

                وقد ذكرنا في مواضع أن الإقرار بالصانع فطري ضروري مع كثرة دلائله وبراهينه .

                ونقول هنا : لا ريب أنا نشهد الحوادث كحدوث السحاب والمطر والزرع والشجر والشمس وحدوث الإنسان وغيره من الحيوان [ ص: 445 ] وحدوث الليل والنهار وغير ذلك . ومعلوم بضرورة العقل أن المحدث لا بد له من محدث وأنه يمتنع تسلسل المحدثات بأن يكون للمحدث محدث وللمحدث محدث إلى غير غاية . وهذا يسمى تسلسل المؤثرات والعلل والفاعلية وهو ممتنع باتفاق العقلاء كما قد بسط في مواضع وذكر ما أورد عليه من الإشكالات . حتى ذكر كلام الآمدي والأبهري مع كلام الرازي وغيرهم .

                مع أن هذا بديهي ضروري في العقول وتلك الخواطر من وسوسة الشيطان . ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم العبد إذا خطر له ذلك أن يستعيذ بالله منه وينتهي عنه . فقال : { يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ فيقول : الله . فيقول : فمن خلق الله ؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليستعذ بالله ولينته } .

                ومعلوم أن المحدث الواحد لا يحدث إلا بمحدث . فإذا كثرت الحوادث وتسلسلت كان احتياجها إلى المحدث أولى . وكلها محدثات فكلها محتاجة إلى محدث . وذلك لا يزول إلا بمحدث لا يحتاج إلى غيره بل هو قديم أزلي بنفسه سبحانه وتعالى .

                وإذا قيل : إن الموجود إما قديم وإما محدث والمحدث لا بد له من قديم فيلزم وجود القديم على التقديرين كان برهانا صحيحا .

                [ ص: 446 ] وكذلك إذا قيل : إما ممكن وإما واجب وبين الممكن بأنه المحدث كان من هذا الجنس .

                وأما إذا فسر الممكن بما يتناول القديم كما فعل ابن سينا وأتباعه كالرازي كان هذا باطلا . فإنه على هذا التقدير لا يمكن إثبات الممكن المفتقر إلى الواجب ابتداء والدليل لا يتم إلا بإثبات هذا ابتداء . وإنما يمكن ذلك في أن المحدث لا بد له من محدث . فإن هذا تشهد أفراده وتعلم بالعقل كلياته .

                وأما إثبات قديم أزلي ممكن فهذا مما اتفق العقلاء على امتناعه . وابن سينا وأتباعه وافقوا على امتناعه كما ذكروه في المنطق تبعا لسلفهم ; لكن تناقضوا أولا . فسلفهم وهم يقولون : الممكن العامي والخاصي الذي يمكن وجوده وعدمه لا يكون إلا حادثا لا يكون ضروريا وكل ما كان قديما أزليا فهو ضروري عندهم .

                وكذلك إذا قيل : الموجود إما أن يكون مخلوقا وإما أن لا يكون مخلوقا والمخلوق لا بد له من موجود غير مخلوق فثبت وجود الموجود الذي ليس بمخلوق على التقديرين .

                وكذلك إذا قيل : الموجود إما غني عن غيره وإما فقير إلى غيره والفقير المحتاج إلى غيره لا تزول حاجته وفقره إلا بغنى عن غيره [ ص: 447 ] فيلزم وجود الغنى عن غيره على التقديرين .

                وكذلك إذا قيل : الحي إما حي بنفسه وإما حي حياته من غيره وما كانت حياته من غيره فذلك الغير أولى بالحياة فيكون حيا بنفسه فثبت وجود الحي بنفسه على التقديرين .

                وكذلك إذا قيل : العالم إما عالم بنفسه وإما عالم علمه غيره ومن علم غيره فهو أولى أن يكون عالما وإذا لم يتعلم من غيره كان عالما بنفسه فثبت وجود العالم بنفسه على التقديرين الحاصرين فإنه لا يمكن سوى هذين التقديرين والقسمين .

                فإذا كان لا يمكن إلا أحدهما وعلى كل تقدير العالم بنفسه موجود والحي بنفسه موجود والغني بنفسه موجود والقديم الواجب بنفسه موجود لزم وجوده في نفس الأمر وامتناع عدمه في نفس الأمر . وهو المطلوب .

                وكذلك إذا قيل : القادر إما قادر بنفسه وإما قادر قدره غيره ومن أقدر غيره فهو أولى أن يكون قادرا . وإذا لم تكن قدرته من غيره كانت قدرته من لوازم نفسه فثبت وجود القادر بنفسه الذي قدرته من لوازم نفسه وعلمه من لوازم نفسه وحياته من لوازم نفسه على كل تقدير .

                [ ص: 448 ] وكذلك الحكيم إما أن يكون حكيما بنفسه وإما أن تكون حكمته من غيره . ومن جعل غيره حكيما فهو أولى أن يكون حكيما فيلزم وجود الحكيم بنفسه على التقديرين .

                وكذلك إذا قيل : الرحيم إما أن تكون رحمته من نفسه وإما أن يكون غيره جعله رحيما . ومن جعل غيره رحيما [ ف ] هو أولى أن يكون رحيما وتكون رحمته من لوازم نفسه فثبت وجود الرحيم بنفسه الذي رحمته من لوازم نفسه على التقديرين .

                وكذلك إذا قيل : الكريم المحسن إما أن يكون كرمه وإحسانه من نفسه وإما أن يكون من غيره . ومن جعل غيره كريما محسنا فهو أولى أن يكون كريما محسنا وذلك من لوازم نفسه .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية