الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما نهضت الأدلة وسطعت البراهين وزاحت العلل والشكوك عاب من عبد سواه وفزع إلى غيره كما نهى عن الأنداد عقب الآية الأولى الداعية إلى العبادة مشيرا بختم التي قبل بيعقلون ، إلى أن هؤلاء ناس ضلت عقولهم وفالت آراؤهم وبين أنهم يتبرأ بعضهم من بعض يوم ينكشف حجاب الغفلة عن سرادق العظمة ويتجلى الجبار في صفة النقمة فقال سبحانه وتعالى عاطفا على ما قدرته مما أرشد إليه المعنى : ومن ، أو يكون التقدير فمن الناس من عقل تلك الآيات فآمن بربه وفني في حبه ومن الناس من يتخذ وهم من لا يعقل من [ ص: 302 ] دون الله الذي لا كفؤ له مع وضوح الأدلة أندادا مما خلقه ، ادعوا أنهم شركاؤه ، أعم من أن يكونوا أصناما أو رؤساء يقلدونهم في الكفر بالله والتحريم والتحليل من غير أمر الله يحبونهم من الحب وهو إحساس بوصلة لا يدرى كنهها كحب الله الذي له الجلال والإكرام بأن يفعلوا معهم من الطاعة والتعظيم فعل المحب كما يفعل من ذلك مع الله الذي لا عظيم غيره ، هذا على أنه من المبني للمفعول ويجوز أن يكون للفاعل فيكون المعنى كحبهم لله لأنهم مشركون والذين آمنوا أشد حبا لله الذي له الكمال كله من حب المشركين لأندادهم فأفاض عليهم من كماله ، لأنهم لا يعدلون به شيئا في حالة من الحالات من ضراء أو سراء في بر أو بحر ، بخلاف المشركين فإنهم [ ص: 303 ] يعدلون في الشدائد إليه سبحانه وتعالى ، وإذا رأوا في الرخاء حجرا أحسن تركوا الأول وعبدوه ، وحبهم هوائي وحب المؤمنين عقلي . وقال الحرالي : ولما استحق القوم القائمون في أمر الله سبحانه وتعالى هذا الاعتبار بما آتاهم الله من العقل لم يكن من اتخذ من دون الله أندادا مما يقال فيهم : قوم ، بل يقصرون إلى اسم النوس الذي هو تردد وتلدد فكأنه سبحانه وتعالى عجب ممن لم يلحق بهؤلاء القوم في هذا الاعتبار الظاهرة شواهده البينة آثاره ، فأنبأ أن طائفة من الناس على المقابلة من ذلك الاعتبار الظاهر لنور العقل في أخذهم لمقابل العقل من الحزق الذي يقدم في موضع الإحجام ويحجم في موضع الإقدام ، ثم غلب ذلك عليهم حتى وصل إلى بواطنهم فصار حبا كأنه وصلة بين بواطنهم وقلوبهم وما اتخذوه من دون الله أندادا ، ففيه إشعار بنحو مما أفصح به لبني إسرائيل في كون قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة ، ففي كرم هذا الخطاب في حق العرب ستر عليهم رعاية لنبيهم في أن يصرح عليهم بما صرح على بني إسرائيل ، ففي لحنه إشعار بأن من اتخذ ندا من دون الله فتلك لوصلة بين حال قلبه وحال ما اتخذ من دون الله ، فمن [ ص: 304 ] عبد حجرا فقلبه في القلوب حجر ومن عبد نباتا فقلبه في القلوب نبات ، وكذا من عبد دابة

                                                                                                                                                                                                                                      وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم كذلك إلى ما يقع معبودا من دون الله ما بين أعلى النيرين الذي هو الشمس إلى أدنى الأوثان إلى ما يقع في الخلق من عبادة بعضهم بعضا من نحو عبادة الفراعنة والنماردة إلى ما يلحق بذلك من نحو رتبة العبادة باتباع الهوى الشائع موقعه في الأمم وفي هذه الأمة ، لأن من غلب عليه هوى شيء فقد عبده ، فكأن عابد الشمس قلبه سعير وعابد النار قلبه نار وعابد القمر قلبه زمهرير ، ومن عبد مثله من الخلق فقد عبد هواه أرأيت من اتخذ إلهه هواه فمن عبد الله فهو الذي علا عن سواه من المخلوقات فعادل سبحانه وتعالى خطاب الأولين المعتبرين العقلاء بهذا الصنف الذي انتهى أمرهم في الكفر إلى الحب من حيث اعتقلت بواطنهم بهم فيما شأنه أن يختص بالله من الخوف والرجاء والنصرة على الأعداء والإعانة للأولياء ، فلما توهموا فيهم مرجى الإلهية ، ومخافتها أحبوهم لذلك كحب الله لأن المتعبد مؤتمر ومبادر فالمبادر قبل الأمر محب ، والمجيب [ ص: 305 ] للأمر مطيع ، فالمحب أعلى في الطرفين . انتهى . ولما عجب من حالهم حذر من سوء منقلبهم ومآلهم فقال : ولو يرى الذين ظلموا أي : ولو يرون أي : المتخذون للأنداد ولكنه أظهر لأجل التعميم الوصف الذي استحقوا به ما يذكر ، وهو وضعهم الشيء في غير محله كفعل من يمشي في مأخذ الاشتقاق وهو الظلمة ، وذلك هنا تسويتهم ممن لا يملك شيئا أصلا بمن يملك كل شيء إذ يرون العذاب أي : يتخذون أندادا والحال أنهم لو يعلمون حين إهانتهم ولين ما غلظ من أكبادهم ورؤية ما لا يستحق غيره بالنسبة إليه يسمى عذابا أن القوة لله الذي له مجامع الكمال جميعا حين يشاهدون العذاب قد أحاط بهم وأن الله الذي لا ملك سواه شديد العذاب لم يتخذوا أندادا ولم يعدلوا بالله أحدا ، أو يكون التقدير : ولو ترى بالتاء والياء ، أي : لو أبصرت أو أبصر الذين ظلموا أنفسهم باتخاذهم الأنداد - إلى آخره . وقال الحرالي : قال تعالى : ولو يرى عطفا على متجاوز أمور من أمور جزائهم مما نالهم من عقوبات أثر كفرهم في الدنيا ، قال عليه الصلاة والسلام : [ ص: 306 ] "إذا أذنب العبد نكتت في قلبه نكتة سوداء" إلى متمادي غاية رؤيتهم العذاب ، وفي قوله : "ترى" بالتاء إقبالا على النبي صلى الله عليه وسلم تعجيب له بما ينالهم مما أصابوه ، وفيه إشعار بأن ذلك من أمر يعلو أمره إلى محل رؤيته التي هي أتم الرؤية ، وفي قوله يرى بالياء تحسر عليهم يشعر بأن منالهم من رؤية العذاب مما كان يزجرهم عما هم عليه لو رأوه . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      إذ يرون أي : الوقت الذي يبصرون فيه العذاب ، أي : الأكبر الذي لا عذاب مثله ; كما أفهمه تعريفه بأل ، ثم بينه بقوله أن القوة وهي منة الباطن التي يجدها المقتدر منشأ لما يبديه ظاهره [وما يبديه ظاهره ] قدرة القوى جمعها وأصلها والقدرة ظاهرها وتفصيل إنشائها لله جميعا ، فإنه لا شيء أشق على الإنسان من أن يرى خصمه نافذ الأمر منفردا بالعز في كل معنى لا سيما [إذا كان جبارا متكبرا شديد البطش ممن عصاه ، كما يشير إليه قوله : وأن الله شديد العذاب ولا سيما ] إذا كان العاصي له قد أساء إليه بالإساءة إلى أوليائه وبالغ حتى لم يدع للصلح موضعا . وقال الحرالي : موضع [ ص: 307 ] الرؤية في الحقيقة هو أن القوة لله جميعا سلبا عن جميع أندادهم الذين أحبوهم وعن أنفسهم ، كما قال قائلهم نحن أولو قوة وأولو بأس شديد لكن لما كان رؤيتهم لذلك عن رؤية مشهود العذاب الذي هو أتم العذاب ذكر العذاب الذي هو ظاهر مرأى أن القوة لله جميعا ، وفي أن القوة إعلام باطلاعهم يوم هذه الرؤية على بواطن أندادهم وسلبها ما شأن البواطن أن تتحلى به من القوة من حيث وصفهم لهم بالحب الباطن أطلعهم على سلب قواهم الباطنة بالرؤية التي هي باطن البصر الذي هو باطن النظر ، ولما ذكر أمر القوة عطف عليه ما هو أمر القدرة فقال وأن الله شديد العذاب إكمالا للخطاب بظاهره ، واستأنف معه الاسم العظيم لإظهار ما بين غايتي الباطن والظاهر في أمر القدرة والقوة ، ليكون مع المنظر الظاهر بالقدرة اسم أظهره واستأنفه وقدم ذكره كما كان مع المرأى الباطن بالقوة اسما أضاف إليه وأنهى له ليقع ما ولي أول الخطاب مقابل ما ختم به الخطاب ، فينعطف أوله على آخره وآخره على أوله باطنا لظاهر وظاهرا لباطن في المتعاطفين جميعا في قوله أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب انتهى أو يقال : إذ يرون العذاب الذي يتوعدون به الآن لأن القوة لله جميعا [ ص: 308 ] فلا مانع له من إتيانهم به ، كما تبين في الآيتين قبلها أنه لا كفؤ له وأنه كامل القدرة شامل العلم ، والجواب محذوف لتهويله لذهاب وهم المتوعد إلى كل ضرب من أنواع التوعد ، ولو ذكر ضرب منه لأمكن أن يوطن نفسه عليه ، فالتقدير : لو رأيت أو رأوا ذلك الوقت الذي يشاهدون فيه تلك العظمة لرأيت أو لرأوا أمرا فظيعا هائلا شاغلا لهم عن اتخاذ الأنداد ومحبتها وغير ذلك من الظلم ، وحذف الجواب للعلم به كما حذف من أمثاله ; ثم أبدل من إذ يرون

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية