الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 248 ] النظر في أركانها وأحكامها

                                                                                                                النظر الأول : في الأركان ، وهي أربعة : الركن الأول : الصيغة ، وفيه ستة فروع : الأول : في الجواهر : هي أن تقول : كاتبتك على خمسين في نجم أو نجمين فصاعدا كل نجم كذا ، وإن لم يقبل أن أديت حرة ، قال ( ش ) : لا يجوز إلا على نجمين ، ولا يجوز نجم ولا الحالة ، لما روي عن عثمان - رضي الله عنه - أنه غضب على عبده فقال : لا عاقبتك ولا كتابتك على نجمين . فدل على أنه لا يجوز أقل من ذلك ولا يعاقبه بالتضييق به ، وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال : الكتابة على نجمين ، والإتيان من الثاني ، ووافقه ابن حنبل على منع الحال ، ووافقنا ( ح ) .

                                                                                                                احتجوا : بالأثر السابق ، ولأنه يعجز عن أدائه فينفسخ العقد ويبطل المقصود فيمتنع كالسمك في الماء ، والطير في الهواء بخلاف بيعه من نفسه ، فإنه لا ينفسخ بالعجز ، والجواب عن الأثرين : أما أثر عثمان - رضي الله عنه - فإنه يدل على أن ذلك تضييق على ذلك العبد لقصور قدرته على الحلول ، وأما أثر علي - رضي الله عنه - فهو إنما يدل على نفي الحلول بمفهومه لا بمنطوقه وهو خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له ، وأما التعجيز : فذلك غير لازم في جميع الصور ، فلا تحصل هذه الدعوى من هذا الدليل ، ويؤكد ما قلنا : القياس على البيع وسائر المعاوضات ، وبالقياس على ما أدى قال : أنت حر على مال ، وقال ( ش ) : كاتبتك على كذا ليس صريحا فلا يعتق بالأداء حتى يقول السيد : نويت إن أدى فهو حر ، لدوران : كاتبتك ، بين الكتابة ، ومخارجة العبد ، والكتابة بالقلم ، فلا تنصرف لأحدهما إلا بالنية ، ووافقنا ( ح ) .

                                                                                                                والجواب : أنه [ ص: 249 ] مشتهر في العرف في الكتابة المخصوصة فتنصرف إليه من غير نية كالمخالعة تحتمل خلع الثياب وغيرها ، وهي تنصرف لزوال العصمة ، وإن لم يقل : إذا دفعت العوض فأنت طالق .

                                                                                                                الثاني : في الجواهر : أنت حر على ألف ، قيل : يعتق في الحال ، والألف في ذمته ; لأن له انتزاع ماله وعتقه ، ولو باعه من نفسه صح وله الولاء ، وكذلك إن دس من اشتراه أو اشترط أن يوالي من شاء ; لأن السيد هو المعتق فله أخذ ماله من غير بيع .

                                                                                                                الثالث : في الكتاب : إن اشترط أنه إن عجز عن نجم رق وإن لم يؤد نجومه إلى أجل كذا فلا كتابة له ، لم يكن له تعجيزه بما شرطت ، ويعجز السلطان بعد أن يجتهد له في التلوم بعد الأجل فإن رجاه وإلا ، لأنك تتهم في تعجيزه وانقطاعه كذلك ، قال ابن يونس : قال بعض فقهائنا : إن شرطت عليه إن شرب خمرا أو نحوه فهو مردود للرق ففعل لا يرده في الرق ، بخلاف العتق إلى أجل فيشترط عليه إن أبق فلا حرية له ، والفرق : أن الثاني ضرر عليك .

                                                                                                                الرابع : إن شرطت وطئها مدة الكتابة بطل الشرط دون الكتابة ، كما لو أعتقها إلى أجل على أن يطأها ، وقال ( ش ) و ( ح ) : الكتابة فاسدة لمناقضته له ، لأن شأن الكتابة حوز النفس . وجوابه : أن ذلك اشترط منفعة من منافعها ، وذلك لا يناقض العقد ، كما لو شرط أن يزوجها من غلامها ويستخدمها ، أو شرط : أيما ولدت في كتابتها رق لك ; لأنها لا تنفسخ بالغرر كما تنفسخ بالبيع إذا شرط وطئا ، قال ابن يونس : ويكون الولد المشترط تبعا لأمه ، ولا يجوز استثناء ما في بطنها ويبيعها ، وعن مالك في هذا كله : تفسخ الكتابة إلا أن يرضى السيد بإسقاط الشرط ، وقال أشهب : تنفسخ ولو بقي منها درهم إلا أن [ ص: 250 ] يرضى السيد بإسقاط الشرط فإن لم يعلم بها حتى أدى المكاتب تبعها الولد ، وقال محمد : إذا أدى ولو نجما بطل الشرط وصحت الكتابة ، وقيل ذلك يخير السيد بين إبطال الشرط والكتابة ، قال ابن القاسم وأشهب : لو كان الشرط من المكاتب إن مات له زوجته وهي أمة السيد وهو معه في الكتابة فذلك جائز ، فإن باعها السيد أو وهبها ، لم يدخل ما تلد بعد ذلك في الكتابة ، قال محمد : وإن كاتب السيد امرأته على حدث ، سقط شرط الزوج في ولدها المولود بعد كتابتها ، ويعتق الولد مع أولهما عتقا ، ويسعى معهما معونة لهما ، ويرث من مات من أبويه قبل العتق ، وإذا أعتق مع أولهما لم يبق له مع الثاني سعاية ولا موارثة ، وما ولدته بعد إسقاط الشرط ففي كتابتها خاصة .

                                                                                                                الخامس : في الكتاب : إن كاتبه على خيار أحدكما شهرا أو يوما كان كالبيع ، وبالأول لأنها مبنية على المسامحة ، وما ولدت في الخيار دخل في كتابتها إن أمضاها من له الخيار ، وإن كرهت يدخل في البيع ما ولدت المبيعة في الخيار ، وولد المكاتبة في الخيار أبين ، وقال غيره : لا تدخل ; لأنه لم تتم الكتابة إلا بعد الولادة ، وكذلك الولد في البيع للبائع ، ولا ينبغي للمبتاع أن يختار الشراء للتفرقة ، قال ابن يونس ، قال أشهب : الولد للسيد ولا يدخل في الكتابة ، وكذلك أرش جنايتها وما وهب لها ، والولد في بيع الخيار للبائع ، ولا ينبغي للمشتري أن يختار البيع للتفرقة ، فإن فعل فإما أن يضم المشتري الولد إلى أمه أو يأخذ البائع الأم فيجمعان في حوز أحدهما ، وإلا نقضت البيع ، قال ابن القاسم : الهبة والصدقة في أيام الخيار للبائع بخلاف الولد ، وهو رجوع لأشهب يرى في الخيار أن العقد يوم وقع الاختيار ، وابن القاسم يرى أن الاختيار مضى للعقد الأول فكأنه لم يزل منعقدا ، والفرق عنده بين الهبة والولد : أن مال العبد للبائع ، فحمل ما طرأ له للبائع ، والولد لم يكن له ، قال ابن القاسم : أرش ما جنى عليهما في أيام الخيار وفي عهدة الثلاث للبائع ; لأنها في ضمانه وعليه نفقتها ، قال اللخمي : يجوز الخيار وإن بعد وهو عند ابن القاسم بخلاف البيع ; لأن الخوف في البيع من بيع معين فتأخر ضمانه على البائع فيزيد في الثمن لمكان [ ص: 251 ] الضمان ، وفي الكتابة : الضمان من السيد قبل الكتابة وبعدها ، وليس للسيد انتزاع ماله في زمن الخيار ، بل الخيار في العقل والمال أربعة : متقدم لا ينزع إلا أن يريد الكتابة أو حدث من خراجه محمل يده فينتن أو حدث من غلة ثالث بحبلته أو عبيده ، فلا ينتزعه ، واختلف في الهبة والصدقة قال : وأراهما للسيد إلا أن يقصد الدافع العون في الكتابة ، وإن لم يمض الكتابة من له الخيار فللواهب والمتصدق رده .

                                                                                                                السادس : في المنتقى : إذا شرط عليه أن لا يسافر صح العقد والشرط ، وأبطل ( ح ) الشرط دون العقد ، وجعل له السفر ، وعندنا : يمنع من سفر بعيد يحل فيه نجم إلا بإذن سيده وهو سوى بين السفرين ، وعند ( ش ) في السفر والشرط قولان .

                                                                                                                لنا : قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( المكاتب عبد ما بقي عليه شيء ) والعبد لا يسافر إلا بإذن سيده ، والتقوى قبل الكتابة على ذلك ، والأصل : بقاؤه ، ولأن السفر غرر وخطر وربما أتلف أمواله فيه أو حلت الكتابة له . احتجوا : بأنه مالك التصرف فيما يتوصل به إلى الأداء ، ومنه السفر ، وجوابه : أن الملك السيد ، والغالب أنه لم يملكه الخطر بشهادة العادة .

                                                                                                                تفريع

                                                                                                                إن شرط أن لا يسافر ، ولا ينكح ، ولا يخرج من أرضه إلا بإذنه فإن فعل فله إبطال كتابته ، قال مالك : إبطالها إن فعل ويرفعه للسلطان ، وليس له أن يفعل ذلك إلا بإذنك شرطه عليه أم لا ; لأنه قد يضيع ماله في الصداق وغيره ، وكذلك لو شرطت ولاءه لغيرك بطل الشرط دون العقد ، والرفع للسلطان لينظر : هل لك منعه من ذلك أم لا ؟ لا تنفسخ الكتابة ولا يتزوج مكاتب إلا بإذن سيده ، وقاله ( ش ) ، ولك إجازته وفسخه كالقن والزوجة بعد الدخول بما استحل به ، وهو ربع [ ص: 252 ] دينار ، فإن أديت له ومعه غيره في الكتابة ; قال أشهب : ليس لك إجازة ذلك إلا بإجازة من معه ، إلا أن يكونوا صغارا ، فيفسخ بكل حال .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية