الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            النوع الثالث عشر من المحرمات :

                                                                                                                                                                                                                                            ( وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما ) في الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قوله : ( وأن تجمعوا بين الأختين ) في محل الرفع ؛ لأن التقدير : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم والجمع بين الأختين .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : الجمع بين الأختين يقع على ثلاثة أوجه : إما أن ينكحهما معا ، أو يملكهما معا ، أو ينكح إحداهما ويملك الأخرى ، أما الجمع بين الأختين في النكاح ، فذلك يقع على وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن يعقد عليهما جميعا ، فالحكم ههنا : إما الجمع ، أو التعيين ، أو التخيير ، أو الإبطال ، أما الجمع فباطل بحكم هذه الآية - هكذا قالوا - إلا أنه مشكل على أصل أبي حنيفة - رضي الله عنه - ؛ لأن الحرمة لا تقتضي الإبطال على قول أبي حنيفة ، ألا ترى أن الجمع بين الطلقات حرام على قوله ، ثم إنه يقع ، وكذا النهي عن بيع الدرهم بالدرهمين لم يمنع من انعقاد هذا العقد ، وكذا القول في جميع المبايعات الفاسدة ، فثبت أن الاستدلال بالنهي على الفساد لا يستقيم على قوله .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قالوا : وهذا يلزمكم أيضا ؛ لأن الطلاق في زمان الحيض وفي طهر جامعها فيه منهي عنه ، ثم إنه يقع .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : بين الصورتين فرق دقيق لطيف ذكرناه في الخلافيات ، فمن أراده فليطلب ذلك الكتاب ، فثبت أن الجمع باطل ، وأما أن التعيين أيضا باطل ؛ فلأن الترجيح من غير مرجح باطل ، وأما أن التخيير أيضا باطل ؛ فلأن القول بالتخيير يقتضي حصول العقد وبقاءه إلى أوان التعيين ، وقد بينا بطلانه ، فلم يبق إلا القول بفساد العقدين جميعا .

                                                                                                                                                                                                                                            الصورة الثانية من صور الجمع : وهي أن يتزوج إحداهما ، ثم يتزوج الأخرى بعدها ، فههنا يحكم ببطلان نكاح الثانية ؛ لأن الدفع أسهل من الرفع ، وأما الجمع بين الأختين بملك اليمين ، أو بأن ينكح إحداهما ويشتري الأخرى ، فقد اختلفت الصحابة فيه ، فقال علي وعمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عمر : لا يجوز الجمع بينهما ، والباقون جوزوا ذلك ، أما الأولون فقد احتجوا على قولهم بأن ظاهر الآية يقتضي تحريم الجمع بين الأختين مطلقا ، فوجب أن يحرم الجمع بينهما على جميع الوجوه ، وعن عثمان أنه قال : أحلتهما آية وحرمتهما آية ، والتحليل أولى ، فالآية الموجبة للتحليل هي قوله : ( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ) [ النساء : 24 ] ، وقوله : ( إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ) [ المؤمنون : 6 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عنه من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن هذه الآيات دالة على تحريم الجمع أيضا ؛ لأن المسلمين [ ص: 31 ] أجمعوا على أنه لا يجوز الجمع بين الأختين في حل الوطء ، فنقول : لو جاز الجمع بينهما في الملك لجاز الجمع بينهما في الوطء لقوله تعالى : ( والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ) [ المؤمنون : 5 ، 6 ] لكنه لا يجوز الجمع بينهما في الملك ، فثبت أن هذه الآية بأن تكون دالة على تحريم الجمع بينهما في الملك أولى من أن تكون دالة على الجواز .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : إن سلمنا دلالتها على جواز الجمع ، لكن نقول : الترجيح لجانب الحرمة ، ويدل عليه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قوله عليه الصلاة والسلام : " ما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام الحلال " .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه لا شك أن الاحتياط في جانب الترك فيجب ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن مبنى الأبضاع في الأصل على الحرمة ، بدليل أنه إذا استوت الأمارات في حصول العقد مع شرائطه وفي عدمه وجب القول بالحرمة ، ولأن النكاح مشتمل على المنافع العظيمة ، فلو كان خاليا عن جهة الإذلال والضرر لوجب أن يكون مشروعا في حق الأمهات ؛ لأن إيصال النفع إليهن مندوب ؛ لقوله تعالى : ( وبالوالدين إحسانا ) [ البقرة : 83 ] ولما كان ذلك محرما علمنا اشتماله على وجه الإذلال والمضارة ، وإذا كان كذلك كان الأصل فيه هو الحرمة ، والحل إنما ثبت بالعارض ، وإذا ثبت هذا ظهر أن الرجحان لجانب الحرمة ، فهذا هو تقرير مذهب علي - رضي الله عنه - في هذا الباب ، أما إذا أخذنا بالمذهب المشهور بين الفقهاء ، وهو أنه يجوز الجمع بين أمتين أختين في ملك اليمين ، فإذا وطئ إحداهما حرمت الثانية ، ولا تزول هذه الحرمة ما لم يزل ملكه عن الأولى ببيع أو هبة أو عتق أو كتابة أو تزويج .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية