الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            واجتاز في مروره على أم معبد بنت كعب من بني كعب بن خزاعة ، قاله ابن هشام . وقال يونس ، عن ابن إسحاق : اسمها عاتكة بنت خالد بن منقذ بن ربيعة بن أصرم . وقال الأموي : هي عاتكة بنت تبيع حليف بني منقذ بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس بن حرام بن حبشية بن كعب بن عمرو ، ولهذه المرأة من الولد ، معبد ، ونضرة ، وحنيدة ، بنو أبي معبد ، واسمه أكثم بن عبد العزى بن منقذ بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس ، وقصتها مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضا .

            وهذه قصة أم معبد الخزاعية : قال يونس عن ابن إسحاق ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيمة أم معبد ، واسمها عاتكة بنت خالد بن منقذ بن ربيعة بن أصرم ، فأرادوا القرى ، فقالت : والله ما عندنا طعام ولا لنا منحة ، ولا لنا شاة إلا حائل . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض غنمها ، فمسح ضرعها بيده ، ودعا الله وحلب في العس حتى أرغى ، وقال : " اشربي يا أم معبد " . فقالت : اشرب فأنت أحق به . فرده عليها فشربت ، ثم دعا بحائل أخرى ، ففعل مثل ذلك بها ، فشربه ثم دعا بحائل أخرى ، ففعل بها مثل ذلك فسقى دليله ، ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى عامرا ، ثم تروح وطلبت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغوا أم معبد ، فسألوا عنه ، فقالوا : أرأيت محمدا ؟ من حليته كذا وكذا فوصفوه لها ، فقالت : ما أدري ما تقولون قد ضافني حالب الحائل ، قالت قريش : فذاك الذي نريد .

            وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن معمر ، حدثنا يعقوب بن محمد ، حدثنا عبد الرحمن بن عقبة بن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله ، ثنا أبي ، عن أبيه ، عن جابر ، قال : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مهاجرين فدخلا الغار ، إذا في الغار جحر فألقمه أبو بكر عقبه حتى أصبح; مخافة أن يخرج على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء ، فأقاما في الغار ثلاث ليال ، ثم خرجا حتى نزلا بخيمات أم معبد ، فأرسلت إليه أم معبد : إني أرى وجوها حسانا ، وإن الحي أقوى على كرامتكم مني . فلما أمسوا عندها بعثت مع ابن لها صغير بشفرة وشاة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اردد الشفرة وهات لي فرقا " . - يعني القدح - فأرسلت إليه أن لا لبن فيها ولا ولد . قال : " هات لي فرقا ، فجاءت بفرق فضرب ظهرها فاجترت ودرت ، فحلب فملأ القدح ، فشرب وسقى أبا بكر ، ثم حلب فبعث به إلى أم معبد ، ثم قال البزار : لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد ، وعبد الرحمن بن عقبة لا نعلم أحدا حدث عنه إلا يعقوب بن محمد ، وإن كان معروفا في النسب .

            وروى الحافظ البيهقي من حديث يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، ثنا عبد الرحمن ابن الأصبهاني ، سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى ، يحدث عن أبي بكر الصديق ، قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فانتهينا إلى حي من أحياء العرب ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت منتحيا ، فقصد إليه ، فلما نزلنا لم يكن فيه إلا امرأة ، فقالت : يا عبد الله ، إنما أنا امرأة وليس معي أحد فعليكما بعظيم الحي إن أردتم القرى . قال : فلم يجبها ، وذلك عند المساء ، فجاء ابن لها بأعنز يسوقها ، فقالت : يا بني انطلق بهذه العنز والشفرة إلى هذين الرجلين ، فقل لهما : تقول لكما أمي : اذبحا هذه وكلا وأطعمانا . فلما جاء ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : " انطلق بالشفرة وجئني بالقدح " . قال : إنها قد عزبت وليس بها لبن . قال : " انطلق " . فجاء بقدح فمسح النبي صلى الله عليه وسلم ضرعها ثم حلب حتى ملأ القدح ، ثم قال : " انطلق به إلى أمك " . فشربت حتى رويت ، ثم جاء به ، فقال : " انطلق بهذه وجئني بأخرى " . ففعل بها كذلك ، ثم سقى أبا بكر ، ثم جاء بأخرى ففعل بها كذلك ، ثم شرب النبي صلى الله عليه وسلم ، فبتنا ليلتنا ثم انطلقنا ، فكانت تسميه المبارك ، وكثرت غنمها حتى جلبت جلبا إلى المدينة ، فمر أبو بكر فرآه ابنها فعرفه ، فقال : يا أمه ، هذا الرجل الذي كان مع المبارك . فقامت إليه فقالت : يا عبد الله ، من الرجل الذي كان معك ؟ قال : أو ما تدرين من هو! قالت : لا . قال : هو نبي الله . قالت : فأدخلني عليه . قال : فأدخلها فأطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاها - زاد ابن عبدان في روايته - قالت : فدلني عليه فانطلقت معي ، وأهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من أقط ومتاع الأعراب . قال : فكساها وأعطاها . قال : ولا أعلمه إلا قال : وأسلمت . إسناد حسن . وقال البيهقي : هذه القصة شبيهة بقصة أم معبد ، والظاهر أنها هي . والله أعلم .

            وقال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي ، قالا : ثنا أبو العباس الأصم ، ثنا الحسن بن مكرم ، حدثني أبو أحمد بشر بن محمد السكري ، ثنا عبد الملك بن وهب المذحجي ، ثنا الحر بن الصياح ، عن أبي معبد الخزاعي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة هاجر من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر ، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر ، ودليلهم عبد الله بن أريقط الليثي ، فمروا بخيمتي أم معبد الخزاعية ، وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة ، تحتبي وتجلس بفناء الخيمة ، فتطعم وتسقي فسألوها هل عندها لحم أو لبن يشترونه منها ؟ فلم يجدوا عندها شيئا من ذلك . وقالت : لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى . وإذا القوم مرملون مسنتون ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا شاة في كسر خيمتها ، فقال : ما هذه الشاة يا أم معبد ؟ فقالت : شاة خلفها الجهد عن الغنم . قال : " فهل بها من لبن ؟ " قالت : هي أجهد من ذلك . قال : " تأذنين لي أن أحلبها " . قالت : إن كان بها حلب فاحلبها . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاة فمسحها ، وذكر اسم الله ومسح ضرعها ، وذكر اسم الله ودعا بإناء لها يربض الرهط ، فتفاجت واجترت ، فحلب فيها ثجا ، حتى علاه البهاء ، فسقاها وسقى أصحابه ، فشربوا عللا بعد نهل ، حتى إذا رووا شرب آخرهم ، وقال : " ساقي القوم آخرهم " . ثم حلب فيه ثانيا عودا على بدء ، فغادره عندها ، ثم ارتحلوا ، قال : فقل ما لبث أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن ، هزلى لا نقي بهن ، مخهن قليل ، فلما رأى اللبن عجب ، وقال : من أين هذا اللبن يا أم معبد ، ولا حلوبة في البيت والشاة عازب ؟ فقالت : لا والله ، إنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت . فقال صفيه لي ، فوالله إني لأراه صاحب قريش الذي تطلب . فقالت : رأيت رجلا ظاهر الوضاءة ، حسن الخلق ، مليح الوجه ، لم تعبه ثجلة ، ولم تزر به صعلة ، قسيم وسيم ، في عينيه دعج ، وفي أشفاره وطف ، وفي صوته صحل ، أحور ، أكحل ، أزج ، أقرن ، في عنقه سطع ، وفي لحيته كثافة ، إذا صمت فعليه الوقار ، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء ، حلو المنطق ، فصل; لا نزر ولا هذر ، كأن منطقه خرزات نظم ينحدرن ، أبهى الناس وأجمله من بعيد ، وأحلاه وأحسنه من قريب ، ربعة ، لا تشنؤه عين من طول ، ولا تقتحمه عين من قصر ، غصن بين غصنين ، فهو أنضر الثلاثة منظرا ، وأحسنهم قدا ، له رفقاء يحفون به ، إن قال استمعوا لقوله ، وإن أمر تبادروا لأمره ، محفود محشود ، لا عابس ولا مفند . فقال - يعني بعلها - : هذا والله صاحب قريش الذي تطلب ، ولو صادفته لالتمست أن أصحبه ، ولأجهدن إن وجدت إلى ذلك سبيلا قال : وأصبح صوت بمكة عال بين السماء والأرض يسمعونه ولا يرون من يقول ، وهو يقول :


            جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين حلا خيمتي أم معبد     هما نزلا بالبر وارتحلا به
            فأفلح من أمسى رفيق محمد     فيال قصي ما زوى الله عنكم
            به من فعال لا تجارى وسؤدد     سلوا أختكم عن شاتها وإنائها
            فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد     دعاها بشاة حائل فتحلبت
            له بصريح ضرة الشاة مزبد     فغادره رهنا لديها لحالب
            يدر لها في مصدر ثم مورد

            قال : وأصبح الناس - يعني بمكة - وقد فقدوا نبيهم ، فأخذوا على خيمتي أم معبد ، حتى لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وأجابه حسان بن ثابت :


            لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم     وقدس من يسري إليهم ويغتدي
            ترحل عن قوم فزالت عقولهم     وحل على قوم بنور مجدد
            وهل يستوي ضلال قوم تسفهوا     عمى وهداة يهتدون بمهتد
            نبي يرى ما لا يرى الناس حوله     ويتلو كتاب الله في كل مشهد
            وإن قال في يوم مقالة غائب     فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد
            ليهن أبا بكر سعادة جده     بصحبته من يسعد الله يسعد
            ويهن بني كعب مكان فتاتهم     ومقعدها للمسلمين بمرصد

            إسلام أبا معبد قال - يعني عبد الملك بن وهب - : فبلغني أن أبا معبد أسلم وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وهكذا رواه الحافظ أبو نعيم ، من طريق عبد الملك بن وهب المذحجي ، فذكر مثله سواء ، وزاد في آخره : قال عبد الملك : بلغني أن أم معبد هاجرت وأسلمت ولحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم .

            ثم رواه أبو نعيم من طرق ، عن مكرم بن محرز الكعبي الخزاعي ، عن أبيه محرز بن مهدي ، عن حزام بن هشام بن حبيش بن خالد ، عن أبيه ، عن جده حبيش بن خالد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخرج من مكة خرج منها مهاجرا ، هو وأبو بكر ، وعامر بن فهيرة ، ودليلهما عبد الله بن أريقط الليثي ، فمروا بخيمة أم معبد ، وكانت امرأة برزة جلدة تحتبي بفناء القبة . وذكر مثل ما تقدم سواء . قال : وحدثناه فيما أظن محمد بن أحمد بن علي بن مخلد ، ثنا محمد بن يونس بن موسى يعني الكديمي ، ثنا عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز مولى العباس بن عبد المطلب ، ثنا محمد بن سليمان بن سليط الأنصاري ، حدثني أبي ، عن أبيه سليط البدري ، قال : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ومعه أبو بكر ، وعامر بن فهيرة ، وابن أريقط ، يدلهم على الطريق ، مر بأم معبد الخزاعية ، وهي لا تعرفه ، فقال لها : " يا أم معبد ، هل عندك من لبن ؟ " قالت : لا والله إن الغنم لعازبة . قال : " فما هذه الشاة ؟ " قالت : خلفها الجهد عن الغنم . ثم ذكر تمام الحديث كنحو ما تقدم .

            ثم قال البيهقي : يحتمل أن هذه القصص كلها واحدة .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية