الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            وكان لكلثوم بن الهدم مربد ، والمربد الموضع الذي يبسط فيه التمر ليجف ، فأخذه منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسسه وبناه مسجدا . وفي الصحيح عن عروة : « فلبث في بني عمرو بن عوف وأسس المسجد الذي أسس على التقوى» . وفي رواية عبد الرزاق عنه قال : «الذين بني فيهم المسجد الذي أسس على التقوى» هم بنو عمرو بن عوف وكذا عند ابن عائذ ولفظه : «ومكث في بني عمرو بن عوف ثلاث ليال واتخذ مكانه مسجدا فكان يصلي فيه ثم بناه بنو عمرو بن عوف فهو الذي أسس على التقوى» .

            وروى يونس بن بكير في زيادات المغازي عن المسعودي عن الحكم بن عتيبة- بضم العين المهملة وفتح الفوقية وسكون التحتية وبالموحدة- قال : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم فنزل بقباء قال عمار بن ياسر : «ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم بد من أن يجعل له مكانا يستظل به إذا استيقظ ويصلي فيه» . فجمع حجارة فبنى مسجد قباء فهو أول من بنى مسجدا- روى الحافظ والسيد- يعني لعامة المسلمين أو للنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وهو في التحقيق أول مسجد صلى فيه بأصحابه جماعة ظاهرا ، وإن كان قد بني غيره من المساجد ، فقد روى ابن أبي شيبة عن جابر رضي الله عنه قال : لقد لبثنا بالمدينة قبل أن يقدم علينا النبي صلى الله عليه وسلم سنتين نعمر المساجد ونقيم الصلاة ، ولذا قيل : كان المتقدمون في الهجرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنصار بقباء قد بنوا مسجدا يصلون فيه ، يعني هذا المسجد ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وورد قباء صلى بهم فيه إلى بيت المقدس ، ولم يحدث فيه شيئا أي في أول الأمر لأن ابن شبة- بالشين المعجمة

            والموحدة المشددة المفتوحتين- روى ذلك ، ثم

            روى أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى مسجد قباء ، وقدم القبلة إلى موضعها اليوم وقال : «جبريل يؤم بي البيت» .

            وروى الطبراني عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : لما سأل أهل قباء النبي صلى الله عليه وسلم أن يبني لهم مسجدا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليقم بعضكم فيركب الناقة ، فقام أبو بكر رضي الله عنه فركبها فحركها فلم تنبعث فرجع فقعد فقام عمر رضي الله عنه فركبها فلم تنبعث فرجع فقعد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : «ليقم بعضكم فيركب الناقة» ، فقام علي رضي الله عنه ، فلما وضع رجله في غرز الركاب وثبت به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أرخ زمامها وابنوا على مدارها فإنها مأمورة» .

            وروى الطبراني بسند رجاله ثقات عن الشموس- بفتح الشين المعجمة- بنت النعمان رضي الله عنها قالت : «نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم ونزل وأسس هذا المسجد : مسجد قباء ، فرأيته يأخذ الحجر أو الصخرة حتى يهصره الحجر ، وأنظر إلى بياض التراب على بطنه أو سرته فيأتي الرجل من أصحابه ويقول : يا رسول الله بأبي أنت وأمي أعطني أكفك ، فيقول : «لا خذ مثله» ، حتى أسسه ، ويقول : «إن جبريل عليه السلام هو يؤم الكعبة» قالت : فكان يقال : إنه أقوم مسجد قبلة .

            قال السيد : «قد صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يستقبل بيت المقدس حتى نسخ ذلك وجاء نقباؤهم في صلاة الصبح فأخبرهم وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة ، فيحتمل أن جبريل عليه السلام كان يؤم [به] البيت ليستدل به على جهة بيت المقدس لتقابل الجهتين ويعلمه بما يؤول إليه الأمر من استقبال الكعبة . أو أنه صلى الله عليه وسلم كان مخيرا في ابتداء الهجرة في التوجه إلى بيت المقدس أو إلى الكعبة ، كما قاله الربيع ، فأم به جبريل البيت لذلك ، سبب استقبال بيت المقدس أولا واختياره الصلاة لبيت المقدس أولا لاستمالة اليهود أو أن استقبال الكعبة كان مشروعا في ذلك الوقت ثم نسخ ببيت المقدس ثم نسخ بالكعبة كما قاله القاضي أبو بكر بن العربي وغيره من أن القبلة نسخت مرتين ، أو أن ذلك تأسيس آخر غير التأسيس الأول . ويدل على هذا ما قدمناه من رواية ابن شبة» .

            وروى ابن شبة أيضا أن عبد الله بن رواحة كان يقول وهم يبنون في مسجد قباء : «أفلح من يعمر المساجدا» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المساجدا» ، فقال عبد الله : «ويقرأ القرآن قائما وقاعدا» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وقاعدا» فقال عبد الله : «ولا يبيت الليل عنه راقدا» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «راقدا» .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية