الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            فصل فيما أصاب المهاجرين من حمى المدينة رضي الله عنهم أجمعين وقد سلم الرسول صلى الله عليه وسلم بحول الله وقوته ، ودعا الله فأزاحها عن المدينة

            قال البخاري : حدثنا عبد الله بن يوسف ، ثنا مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أنها قالت : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال . قالت : فدخلت عليهما فقلت : يا أبه كيف تجدك ؟ ويا بلال كيف تجدك ؟ قالت : وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول :


            كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله

            وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته ، ويقول :


            ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة     بواد وحولي إذخر وجليل
            وهل أردن يوما مياه مجنة     وهل يبدون لي شامة وطفيل

            قالت عائشة : فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال : " اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد ، وصححها ، وبارك لنا في صاعها ومدها ، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة " .
            ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبيدة عن هشام مختصرا .

            وفي رواية البخاري له عن أبي أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، فذكره . وزاد بعد شعر بلال ، ثم يقول : اللهم العن عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأمية بن خلف ، كما أخرجونا إلى أرض الوباء . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد ، اللهم بارك لنا في صاعها ، وفي مدها ، وصححها لنا ، وانقل حماها إلى الجحفة " . وقدمنا إلى المدينة وهي أوبأ أرض الله ، وكان بطحان يجري نجلا . يعني ماء آجنا .

            وقال زياد ، عن محمد بن إسحاق ، حدثني هشام بن عروة وعمر بن عبد الله ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، قالت : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، قدمها وهي أوبأ أرض الله ، من الحمى ، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم ، وصرف الله ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم . قالت : فكان أبو بكر ، وعامر بن فهيرة ، وبلال; موليا أبى بكر في بيت واحد ، فأصابتهم الحمى ، فدخلت عليهم أعودهم ، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب ، وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك ، فدنوت من أبي بكر ، فقلت : كيف تجدك يا أبه ؟ فقال :


            كل امرئ مصبح في أهله     والموت أدنى من شراك نعله

            قالت : والله ما يدري أبى ما يقول . قالت : ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة فقلت : كيف تجدك يا عامر ؟ قال :


            لقد وجدت الموت قبل ذوقه     إن الجبان حتفه من فوقه
            كل امرئ مجاهد بطوقه     كالثور يحمي جلده بروقه

            قالت : فقلت : والله ما يدري عامر ما يقول . قالت : وكان بلال إذا أدركته الحمى اضطجع بفناء البيت ، ثم رفع عقيرته فقال :


            ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة     بفخ وحولي إذخر وجليل
            وهل أردن يوما مياه مجنة     وهل يبدون لي شامة وطفيل

            قالت عائشة : فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت منهم ، وقلت : إنهم ليهذون ، وما يعقلون من شدة الحمى . فقال : " اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد ، وبارك لنا في مدها ، وصاعها ، وانقل وباءها إلى مهيعة " .
            ومهيعة هي الجحفة .

            وقال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو ، قالا : ثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا أحمد بن عبد الجبار ، ثنا يونس بن بكير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وهي أوبأ أرض الله ، وواديها بطحان نجل . قال هشام : وكان وباؤها معروفا في الجاهلية ، وكان إذا كان الوادي وبيئا ، فأشرف عليه الإنسان ، قيل له أن ينهق نهيق الحمار; فإذا فعل ذلك لم يضره وباء ذلك الوادي ، وقد قال الشاعر حين أشرف على المدينة :


            لعمري لئن عشرت من خيفة الردى     نهيق الحمار إنني لجزوع

            وروى البخاري ، من حديث موسى بن عقبة ، عن سالم ، عن أبيه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رأيت كأن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى قامت بمهيعة - وهي الجحفة - فأولت أن وباء المدينة نقل إليها : . هذا لفظ البخاري ، ولم يخرجه مسلم . ورواه الترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن ماجه من حديث موسى بن عقبة .

            وقد روى حماد بن زيد ، عن هشام بن عروة ، عن عائشة ، قالت : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهي وبيئة . فذكر الحديث بطوله إلى قوله : " وانقل حماها إلى الجحفة " . قال هشام : فكان المولود يولد بالجحفة ، فلا يبلغ الحلم حتى تصرعه الحمى . رواه البيهقي في " دلائل النبوة " . وقال يونس ، عن ابن إسحاق ، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وهي وبيئة ، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم حتى أجهدهم ذلك ، وصرف الله ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم .

            وقد ثبت في " الصحيحين " عن ابن عباس ، قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه - صبيحة رابعة يعني مكة - عام عمرة القضاء ، فقال المشركون : إنه يقدم عليكم وفد قد وهنهم حمى يثرب . فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ، وأن يمشوا ما بين الركنين . ولم يمنعه أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم .

            قلت : وعمرة القضاء كانت في سنة سبع في ذي القعدة ، فإما أن يكون تأخر دعاؤه عليه الصلاة والسلام بنقل الوباء إلى قريب من ذلك ، أو أنه رفع وبقي آثار منه قليل ، أو أنهم بقوا في خمار ما كان أصابهم من ذلك إلى تلك المدة . والله أعلم .

            وقال زياد ، عن ابن إسحاق ، وذكر ابن شهاب الزهري ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هو وأصحابه ، أصابتهم حمى المدينة ، حتى جهدوا مرضا ، وصرف الله ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم ، حتى كانوا ما يصلون إلا وهم قعود . قال : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يصلون كذلك ، فقال لهم : " اعلموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم " . فتجشم المسلمون القيام ، على ما بهم من الضعف والسقم; التماس الفضل .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية