الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3 ] سورة النور

                                                                                                                                                                                                                                      بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون . الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين . الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين

                                                                                                                                                                                                                                      وهي مدنية كلها بإجماعهم

                                                                                                                                                                                                                                      روى أبو عبد الله الحاكم في " صحيحه " من حديث عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة، وعلموهن المغزل وسورة النور " يعني: النساء .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 4 ] قوله عز وجل: سورة قرأ الجمهور بالرفع . وقرأ أبو رزين العقيلي، وابن أبي عبلة ، ومحبوب عن أبي عمرو: " سورة " بالنصب . قال أبو عبيدة: من رفع، فعلى الابتداء . وقال الزجاج: هذا قبيح، لأنها نكرة، و أنزلناها صفة لها، وإنما الرفع على إضمار: هذه سورة، والنصب على وجهين،أحدهما على معنى: أنزلنا سورة، وعلى معنى: اتل سورة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وفرضناها قرأ ابن كثير، وأبو عمرو بالتشديد، وقرأ ابن مسعود، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، وعكرمة، والضحاك، والزهري ونافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، وابن يعمر، والأعمش، وابن أبي عبلة بالتخفيف . قال الزجاج: من قرأ بالتشديد، فعلى وجهين، أحدهما على معنى التكثير، أي إننا فرضنا فيها فروضا، والثاني: على معنى: بينا وفصلنا ما فيها من الحلال والحرام; ومن قرأ بالتخفيف، فمعناه: ألزمناكم العمل [ ص: 5 ] بما فرض فيها . وقال غيره: من شدد، أراد: فصلنا فرائضها، ومن خفف، فمعناه: فرضنا ما فيها .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: الزانية والزاني القراءة المشهورة بالرفع . وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو الجوزاء، وابن أبي عبلة ، وعيسى بن عمر: " الزانية " بالنصب . واختار الخليل وسيبويه الرفع اختيار الأكثرين . قال الزجاج: والرفع أقوى في العربية، لأن معناه من زنى فاجلدوه، فتأويله الابتداء، ويجوز النصب على معنى: اجلدوا الزانية . فأما الجلد فهو ضرب الجلد; يقال: جلده: إذا ضرب جلده، كما يقال: بطنه: إذا ضرب بطنه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال المفسرون: ومعنى الآية: الزانية والزاني إذا كانا حرين بالغين بكرين، فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة .

                                                                                                                                                                                                                                      فصل

                                                                                                                                                                                                                                      قال شيخنا علي بن عبيد الله: هذه الآية تقتضي وجوب الجلد على البكر والثيب . وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق البكر زيادة على الجلد بتغريب عام، وفي حق الثيب زيادة على الجلد بالرجم بالحجارة . فروى عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة " . وممن قال بوجوب النفي في حق البكر [ ص: 6 ] أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، وممن بعدهم عطاء، وطاووس، وسفيان، ومالك وابن أبي ليلى، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وممن قال بالجمع بين الجلد والرجم في حق الثيب علي بن أبي طالب، والحسن البصري، والحسن بن صالح، وأحمد، وإسحاق، قال: وذهب قوم من العلماء إلى أن المراد بالجلد المذكور في هذه الآية: البكر، [ ص: 7 ] فأما الثيب، فلا يجب عليه الجلد، وإنما يجب الرجم، روي عن عمر، وبه قال النخعي والزهري والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك، وروي عن أحمد رواية مثل قول هؤلاء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ولا تأخذكم وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو رزين، والضحاك، وابن يعمر، والأعمش: " يأخذكم " بالياء، بهما رأفة قرأ نافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: " رأفة " بإسكان الهمزة . وقرأ أبو المتوكل، ومجاهد، وأبو عمران الجوني، وابن كثير: بفتح الهمزة وقصرها على وزن رعفة . وقرأ سعيد بن جبير، والضحاك، وأبو رجاء العطاردي: " رآفة " مثل سآمة وكآبة .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي معنى الكلام قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: لا تأخذكم بهما رأفة، فتخففوا الضرب، ولكن أوجعوهما، قاله سعيد بن المسيب، والحسن، والزهري، وقتادة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: لا تأخذكم بهما رأفة فتعطلوا الحدود ولا تقيموها، قاله مجاهد، والشعبي، وابن زيد في آخرين .

                                                                                                                                                                                                                                      فصل

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف العلماء في شدة الضرب في الحدود، فقال الحسن البصري: ضرب الزنا أشد من القذف، والقذف أشد من الشرب، ويضرب الشارب أشد من ضرب التعزير، وعلى هذا مذهب أصحابنا وقال أبو حنيفة: التعزير أشد الضرب، وضرب الزاني أشد من ضرب الشارب، وضرب الشارب أشد من ضرب القذف . وقال مالك: الضرب في الحدود كلها سواء غير مبرح .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 8 ] فصل

                                                                                                                                                                                                                                      فأما ما يضرب من الأعضاء، فنقل الميموني عن أحمد في جلد الزاني، قال: يجرد، ويعطى كل عضو حقه، ولا يضرب وجهه ولا رأسه . ونقل يعقوب بن بختان: لا يضرب الرأس ولا الوجه ولا المذاكير، وهو قول أبي حنيفة . وقال مالك: لا يضرب إلا في الظهر وقال الشافعي: يتقى الفرج والوجه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: في دين الله فيه قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: في حكمه، قاله ابن عباس . والثاني: في طاعة الله، ذكره الماوردي .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين قال الزجاج: القراءة بإسكان اللام، ويجوز كسرها . والمراد بعذابهما ضربهما .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي المراد بالطائفة هاهنا خمسة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: الرجل فما فوقه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد وقال النخعي: الواحد طائفة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: الاثنان فصاعدا، قاله سعيد بن جبير، وعطاء; وعن عكرمة كالقولين . قال الزجاج: والقول الأول على غير ما عند أهل اللغة، لأن الطائفة في معنى جماعة، وأقل الجماعة اثنان .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: ثلاثة فصاعدا قاله الزهري .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: أربعة، قاله ابن زيد .

                                                                                                                                                                                                                                      والخامس: عشرة، قاله الحسن البصري . [ ص: 9 ] قوله تعالى: الزاني لا ينكح إلا زانية قال عبد الله بن عمرو: كانت امرأة تسافح، وتشترط للذي يتزوجها أن تكفيه النفقة فأراد رجل من المسلمين أن يتزوجها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية . وقال عكرمة: نزلت في بغايا، كن بمكة، ومنهن تسع صواحب رايات، وكانت بيوتهن تسمى في الجاهلية: المواخير، ولا يدخل عليهن إلا زان من أهل القبلة، أو مشرك من أهل الأوثان، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن، فنزلت هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      قال المفسرون: ومعنى الآية: الزاني من المسلمين لا يتزوج من أولئك البغايا إلا زانية أو مشركة لأنهن كذلك كن والزانية منهن لا ينكحها إلا زان أو مشرك ، ومذهب أصحابنا أنه إذا زنى بامرأة، لم يجز له أن يتزوجها إلا بعد التوبة منهما .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 10 ] قوله تعالى: وحرم ذلك وقرأ أبي بن كعب، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء: " وحرم الله ذلك " بزيادة اسم الله عز وجل مع فتح حروف " حرم " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ زيد بن علي: " وحرم ذلك بفتح الحاء وضم الراء مخففة . ثم فيه قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنه نكاح الزواني; قاله مقاتل . والثاني: الزنا، قاله الفراء .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية