الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        معلومات الكتاب

                        إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

                        الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                        صفحة جزء
                        المسألة الرابعة .

                        اختلف في جواز استعمال اللفظ المشترك في معنييه أو معانيه :

                        فذهب الشافعي ، والقاضي أبو بكر ، وأبو علي الجبائي ، والقاضي عبد الجبار بن أحمد ، والقاضي جعفر ، والشيخ الحسن وبه قال الجمهور وكثير من أئمة أهل البيت إلى جوازه .

                        وذهب أبو هاشم ، وأبو الحسين البصري ، والكرخي إلى امتناعه .

                        ثم اختلفوا : فمنهم من منع منه لأمر يرجع إلى القصد ، ومنهم من منع منه لأمر [ ص: 92 ] يرجع إلى الوضع .

                        والكلام ينبني على بحث هو : هل يلزم من كون اللفظ لمعنيين ، أو معان على البدل ، أن يكون موضوعا لهما أو لها على الجمع ، أم لا ؟

                        فقال المانعون : إن المعلوم بالضرورة المغايرة بين المجموع ، وبين كل واحد من الأفراد ; لأن الوضع تخصيص لفظ بمعنى ، فكل وضع يوجب أن لا يراد باللفظ إلا هذا الموضوع له ، ويوجب أن يكون هذا المعنى تمام المراد باللفظ ، فاعتبار كل من الوضعين ينافي اعتبار الآخر ، فاستعماله للمجموع استعمال له في غير ما وضع له ، وإنه غير جائز .

                        وإن قلنا : إن ذلك اللفظ وضع للمجموع ، فلا يخلو إما أن يستعمل لإفادة المجموع وحده مع إفادة أفراده ، فإن كان الأول لم يكن اللفظ مفيدا إلا لأحد مفهوماته ; لأن الواضع وضعه بإزاء أمور ثلاثة على البدل ، وأحدها ذلك المجموع ، فاستعمال اللفظ فيه وحده لا يكون استعمالا له في كل مفهوماته ، وإن قلنا : إنه مستعمل في إفادة المجموع والأفراد على البدل ، فهو محال كما قدمنا .

                        واحتج المجوزون بأمور :

                        أحدها : أن الصلاة من الله رحمة ومن الملائكة استغفار ، ثم إن الله سبحانه أراد بقوله : إن الله وملائكته يصلون على النبي كلا المعنيين ، وهذا هو الجمع بين معنيي المشترك .

                        وأجيب : بأن هذه الآية ليس فيها استعمال الاسم المشترك في أكثر من معنى واحد ; لأن سياق الآية لإيجاب اقتداء المؤمنين بالله وملائكته في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا بد من اتحاد معنى الصلاة في الجميع ; لأنه لو قيل : إن الله يرحم النبي ، والملائكة يستغفرون له ، يا أيها الذين آمنوا ادعوا له ، لكان هذا الكلام في غاية الركاكة ، فعلم أنه لا بد من اتحاد معنى الصلاة ، سواء كان معنى حقيقيا أو معنى مجازيا ، أما الحقيقي : فهو الدعاء ، فالمراد أنه سبحانه يدعو ذاته بإيصال الخير إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم من لوازم هذا الدعاء الرحمة ، فالذي قال : إن الصلاة من الله الرحمة ، قد أراد هذا المعنى ، لا أن الصلاة وضعت للرحمة .

                        وأما المجازي ، فكإرادة الخير ونحو ذلك ، مما يليق بهذا المقام ، ثم إن اختلف ذلك لأجل اختلاف الموصوف فلا بأس به ، ولا يكون هذا من باب الاشتراك بحسب الوضع . [ ص: 93 ] واحتجوا أيضا بقوله سبحانه : ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض الآية ; فإنه نسب السجود إلى العقلاء وغيرهم ، كالشجر ، والدواب ، فما نسب إلى غير العقلاء يراد به الانقياد ، لا وضع الجبهة على الأرض ; وما نسب إلى العقلاء يراد به وضع الجبهة على الأرض ؛ إذ لو كان المراد الانقياد لما قال : وكثير من الناس ; لأن الانقياد شامل لجميع الناس .

                        وأجيب : بأنه يمكن أن يراد بالسجود الانقياد في الجميع ، وما ذكروا من أن الانقياد شامل لجميع الناس باطل ; لأن الكفار لن ينقادوا .

                        ويمكن أن يراد بالسجود وضع الرأس على الأرض في الجميع ، فلا يحكم باستحالته من الجمادات ، إلا من يحكم باستحالة التسبيح من الجمادات ، وباستحالة الشهادة من الجوارح والأعضاء يوم القيامة .

                        إذا عرفت هذا لاح لك عدم جواز الجمع بين معنيي المشترك أو معانيه ، ولم يأت من جوزه بحجة مقبولة .

                        وقد قيل : إنه يجوز الجمع مجازا لا حقيقة ، وبه قال جماعة من المتأخرين .

                        وقيل : يجوز إرادة الجمع ، لكن بمجرد القصد لا من حيث اللغة ، وقد نسب هذا إلى الغزالي ، والرازي .

                        وقيل : يجوز الجمع في النفي لا في الإثبات ، فيقال مثلا : ما رأيت عينا ، ومراده العين الجارحة ، وعين الذهب ، وعين الشمس ، وعين الماء ، ولا يصح أن يقال : عندي عين ، وتراد هذه المعاني بهذا اللفظ .

                        وقيل : بإرادة الجميع في الجمع ، فيقال مثلا : عندي عيون ، ويراد تلك المعاني ، وكذا المثنى فحكمه حكم الجمع ، فيقال مثلا : عندي جونان ، ويراد أبيض وأسود ، ولا يصح إرادة المعنيين أو المعاني بلفظ المفرد ، وهذا الخلاف إنما هو في المعاني التي يصح الجمع بينها ، وفي المعنيين اللذين يصح الجمع بينهما ، لا في المعاني المتناقضة .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية