الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 14 ) مسألة : قال : ( ولا يتوضأ بماء قد توضئ به ) يعني : الماء المنفصل عن أعضاء المتوضئ ، والمغتسل في معناه ، وظاهر المذهب أن المستعمل في رفع الحدث طاهر غير مطهر ، لا يرفع حدثا ، ولا يزيل نجسا ، وبه قال الليث والأوزاعي ، وهو المشهور عن أبي حنيفة ، وإحدى الروايتين عن مالك ، وظاهر مذهب الشافعي .

                                                                                                                                            وعن أحمد رواية أخرى ، أنه طاهر مطهر . وبه قال الحسن ، وعطاء ، والنخعي ، والزهري ، ومكحول ، وأهل الظاهر ، والرواية الثانية لمالك ، والقول الثاني للشافعي . وروي عن علي ، وابن عمر ، وأبي أمامة فيمن نسي مسح رأسه ، إذا وجد بللا في لحيته ، أجزأه أن يمسح رأسه بذلك البلل .

                                                                                                                                            ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الماء لا يجنب } ، وقال : { الماء ليس عليه جنابة } ، وروي { أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل من الجنابة ، فرأى لمعة لم يصبها الماء ، فعصر شعره عليها } . رواهما الإمام أحمد ، في " المسند " وابن ماجه ، وغيرهما

                                                                                                                                            ولأنه غسل به محل طاهر ، فلم تزل به طهوريته ، كما لو غسل به الثوب ; ولأنه لاقى محلا طاهرا ، فلا يخرج عن حكمه بتأدية الفرض به ، كالثوب يصلى فيه مرارا .

                                                                                                                                            [ ص: 29 ] وقال أبو يوسف : هو نجس . وهو رواية عن أبي حنيفة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ، ولا يغتسل فيه من جنابة . } رواه أبو داود

                                                                                                                                            فاقتضى أن الغسل فيه ، كالبول فيه ; ولأنه يسمى طهارة والطهارة لا تكون إلا عن نجاسة ، إذ تطهير الطاهر لا يعقل . ولنا : على طهارته ، { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه . } رواه البخاري ; { ولأنه صلى الله عليه وسلم صب على جابر من وضوئه إذ كان مريضا ، }

                                                                                                                                            ولو كان نجسا لم يجز فعل ذلك ; ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونساءه كانوا يتوضئون في الأقداح والأتوار ويغتسلون في الجفان ، ومثل هذا لا يسلم من رشاش يقع في الماء من المستعمل ، ولهذا قال إبراهيم النخعي ولا بد من ذلك . فلو كان المستعمل نجسا لنجس الماء الذي يقع فيه .

                                                                                                                                            وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه قدمت إليه امرأة من نسائه قصعة ليتوضأ منها ، فقالت امرأة : إني غمست يدي فيها ، وأنا جنب . فقال : الماء لا يجنب } ، ورواه الإمام أبو عبد الله في " المسند " : " الماء لا ينجس " .

                                                                                                                                            وعندهم الحدث يرتفع من غير نية ; ولأنه ماء طاهر لاقى محلا طاهرا ، فكان طاهرا ، كالذي غسل به الثوب الطاهر ، والدليل على أن المحدث طاهر ما روى أبو هريرة رضي الله عنه ، قال : { لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جنب ، فانخنست منه فاغتسلت ثم جئت ، فقال : أين كنت يا أبا هريرة ؟ قلت : يا رسول الله : كنت جنبا ، فكرهت أن أجالسك ، فذهبت فاغتسلت ثم جئت . فقال : سبحان الله ، المسلم لا ينجس } متفق عليه ;

                                                                                                                                            ولأنه لو غمس يده في الماء لم ينجسه ، ولو مس شيئا رطبا لم ينجسه ، ولو حمله مصل لم تبطل صلاته . وقولهم : إنه نهى عن الغسل من الجنابة في الماء الدائم ، كنهيه عن البول فيه .

                                                                                                                                            قلنا : النهي يدل على أنه يؤثر في الماء ، وهو المنع من التوضؤ به ، والاقتران يقتضي التسوية في أصل الحكم ، لا في تفصيله ، وإنما سمي الوضوء والغسل طهارة لكونه ينقي الذنوب والآثام ، كما ورد في الأخبار ، بدليل ما ذكرناه .

                                                                                                                                            إذا ثبت هذا فالدليل على خروجه عن الطهورية قول النبي صلى الله عليه وسلم : { لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب } رواه مسلم ، منع من الغسل فيه كمنعه من البول فيه ، فلولا أنه يفيده منعا لم ينه عنه ; ولأنه أزيل به مانع من الصلاة ، فلم يجز استعماله في طهارة أخرى ، كالمستعمل في إزالة النجاسة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية