الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
مسألة

" فإذا استمر بها الدم في الشهر الآخر فإن كانت معتادة ، فحيضها أيام عادتها ، وإن لم تكن معتادة ، ولها تمييز - وهو أن يكون بعض دمها أسود ثخينا ، وبعضه رقيقا أحمر - فحيضها زمن الأسود الثخين " .

أما إذا استمر بها الدم فلا يخلو إما أن يكون لها عادة محفوظة يعلم قدرها ووقتها أو لا ، فإن كان لها عادة رجعت إلى عادتها فجلست قدر ما كانت تحبسها حيضتها ، سواء كان الدم في جميعها أسود أو أحمر ، أو بعضه أسود ، وبعضه أحمر ، في أشهر الروايتين ، وهي اختيار أكثر الأصحاب ، وإن لم تكن معتادة إما أن تكون مبتدأة أو ناسية لعادتها أو غير ذلك ، فإنها ترد إلى التمييز ، فإن دم الحيض أسود ثخين منتن محتدم ، ودم المستحاضة أحمر رقيق أو أصفر ، فتجلس زمن الدم الأسود إذا لم يزد على أكثر الحيض ولم ينقص عن أقله ، وعنه : أنها ترد إلى التمييز أولى ، فإن لم يكن لها تمييز بأن كان الدم كله أسود أو أحمر ، وزاد الأسود على أكثر الحيض أو نقص عن أقله ، ردت إلى العادة ، وهذا اختيار الخرقي ، فإن كان زمن العادة كله أسود ، [ ص: 500 ] وما سواه أحمر ، عملت بذلك بلا شبهة ، لما روت عائشة أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت : يا رسول الله إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة ؟ فقال : " إنما ذلك دم عرق ، وليست بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي " رواه الجماعة إلا ابن ماجه .

وعن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش : أنها كانت تستحاض ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف ، فإذا كان كذلك فأمسكي عن الصلاة ، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي ، فإنما هو عرق " رواه أبو داود والنسائي ، ولأنه خارج يوجب الغسل ، فيرجع إلى صفته عند الإشكال كالمني المشتبه بالمذي ، وكان أولى من العادة ؛ لأنه علامة في تميز الدم حاضرة ، والعادة علامة منقضية ، والأول أصح ، لما روت عائشة رضي الله عنها أن أم حبيب بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الدم ، قال لها : " امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي " ، فكانت تغتسل عند كل صلاة . رواه مسلم .

وعن القاسم عن زينب بنت جحش أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : إنها مستحاضة ، فقال : " تجلس أيام أقرائها ثم تغتسل وتؤخر الظهر وتعجل العصر وتغتسل وتصلي ، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل وتصليهما جميعا وتغتسل للفجر " رواه النسائي . وعن أم سلمة أنها [ ص: 501 ] استفتت رسول صلى الله عليه وسلم في امرأة تهراق الدم ، فقال : " لتنظر قدر الأيام والليالي التي كانت تحيضهن من الشهر فتدع الصلاة ثم تغتسل ولتستثفر ثم تصلي " رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه . وعن عائشة : أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة فسد حيضها واهريقت دما لا تدري ما تصلي ، قالت : " فأمرني أن آمرها فلتنتظر قدر الليالي والأيام ، ثم لتدع الصلاة فيهن وتقدرهن ثم تغتسل وتحسن طهرها ثم لتستثفر ثم تصلي " رواه أبو داود ، ولأن العادة طبيعة ثابتة ، فوجب الرد إليها عند التغير لتمييز دم الجبلة من دم الفساد ، ولأن الاستحاضة مرض وفساد ، والفاسد هو ما خرج من عادة الصحة والسلامة ، ولهذا يستدل على سقم الأعضاء بخروجها عن عادتها ، وقدمنا العادة على التمييز ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفتى به في قضايا متعددة ، ولو كان العمل بالتمييز مقدما لبدأ به ، ولأنه لم يستفصل واحدة منهن عن حال دمها ، وترك الاستفصال يوجب عدم الجواب لجميع صور السؤال ، ولأنه يبعد أن لا يكون فيهن مميزة ، ولأن الدم الموجود في العدة هو حيض في غير المستحاضة بكل حال ، فكذلك في المستحاضة ؛ بخلاف الدم الأسود ، ولأن الدم الزائد على العادة حادث مع الاستحاضة ، فكان استحاضة ، كما زاد على أكثر الدم ، وهذا لأن الحكم إذا حدث وهناك سبب صالح له أضيف إليه ، ولأن الدم الأسود إن كان أقل من العادة فالصفرة والكدرة في زمن العادة حيض ، وإن كان أكثر فلا دليل على أنه حيض ؛ لاحتمال أن يكون استحاضة ، ولأن المشهور عندنا أن الدم إذا تغير أول مرة عن حاله لا يلتفت إليه حتى يتكرر فيصير عادة في المبتدأة والمعتادة ؛ مع أنه صالح لا يكون حيضا ، فلأن يعمل بالعادة المتقدمة [ ص: 502 ] مع الاستحاضة أولى ، وأما حديث فاطمة فقد روت عائشة رضي الله عنها أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني أستحاض فلا أطهر ، أفأدع الصلاة ؟ فقال : " لا ، إن ذلك دم عرق ، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ، ثم اغتسلي وصلي " رواه البخاري ، فقد ردها تارة إلى التمييز ، وتارة إلى العادة ، والله أعلم أنه أمرها بالعادة أولا فلم يقطعها ، فأمرها بالتمييز ، كذلك قال الإمام أحمد : " إنها نسيت أيامها " . وقد تقدم ذكر العادة التي يرجع إليها ، وأنها لا تثبت إلا بثلاث في ظاهر المذهب ، وتثبت العادة بالتمييز ، فإذا رأت دما أسود خمسة أيام في ثلاثة أشهر ، وما فيه دم أحمر متصل ، وهي مبتدأة أو ناسية ، ثم صار دما مبهما - فإنها تجلس زمن الدم الأسود ، ولكن هل تقدم هذه العادة على التمييز بعدما أثبتنا التمييز بأول مرة ؟ على وجهين ، مثل أن ترى في الشهر الرابع خمسة : أحمر ثم أسود وثلاثة أحمر ثم أسود ، فقيل : حيضها من أول الأسود قدر عادتها ؛ لأن الأسود يمنع الأحمر قبله أن يكون حيضا ؛ لأن التمييز أصل هذه العادة ، فيكون أقوى منها ، وقيل : حيضها من الأحمر ؛ لأنه صادف زمان العادة ، ومن أصلنا أن العادة مقدمة على التمييز .

التالي السابق


الخدمات العلمية