الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( سؤال ) ما ضابط قاعدة الإصرار المصير الصغيرة كبيرة وما عدد التكرار المحصل لذلك وكذلك ما ضابط قاعدة تناول المباحات المخلة بالشهادة كالأكل في السوق وغيره جوابه قال بعض العلماء : ينظر في ذلك إلى ما يحصل من ملابسة الكبيرة من عدم الوثوق بفاعلها ثم ينظر إلى الصغيرة فمتى حصل من تكرارها مع البقاء على عدم التوبة والندم ما يوجب عدم الوثوق به في دينه وإقدامه على الكذب في الشهادة فاجعل ذلك قادحا وما لا فلا وكذلك الأمور المباحة متى تكررت .

[ ص: 123 ] ومتى تكررت الصغيرة مع تخلل التوبة والندم أو من أنواع مختلفة مع عدم اشتمال القلب على العزم على العودة لا يقدح في الشهادة إذا تحرر بالتقريب الكبائر من الصغائر وأن ذلك يرجع إلى عظم المفسدة فنرجع إلى تحرير ما يعلم به الكفر من الكبائر فنقول : أصل الكفر اهتضام جانب الربوبية ولكن ليس ذلك على الإطلاق فقد يكون الاهتضام بالكبيرة أو بالصغيرة وليستا كفرا بل لا بد من الوصول إلى رتبة خاصة من ذلك وتحريرها أن الكفر قسمان : متفق عليه ومختلف فيه هل هو كفر أم لا فالمتفق عليه نحو الشرك بالله وجحد ما علم من الدين بالضرورة كجحد وجوب الصلاة والصوم ونحوهما والكفر الفعلي نحو إلقاء المصحف في القاذورات وجحد البعث أو النبوات أو وصفه تعالى بكونه لا يعلم أو لا يريد أو ليس بحي ونحوه وأما المختلف فيه فكالتجسيم وأن العبد يخلق أفعاله وأن إرادة الله تعالى ليست . [ ص: 124 ] بواجبة النفوذ وأنه تعالى في جهة وأنه ليس بمنزه ونحو ذلك من اعتقادات أرباب الأهواء فلمالك والشافعي وأبي حنيفة والقاضي أبي بكر الباقلاني والأشعري فيهم قولان بالتكفير وعدمه .

وفي التكفير بترك الصلاة قولان قال : مالك والشافعي ليس كفرا وقال ابن حنبل كفر وقال : القاضي أبو بكر من كفر جملة الصحابة فهو كافر لأن تكفيرهم يلزم منه إبطال الشريعة لأنهم أصلها وعنهم أخذت وقال : الشيخ أبو الحسن الأشعري إرادة الكفر كفر وبناء كنيسة يكفر فيها بالله كفر لأنه إرادة الكفر ومن قتل نبيا بقصد إماتة شريعته مع تصديقه فهو كافر ولعل غير القاضي والأشعري يوافقهما في هذه الصورة ومن المجمع عليه فيما علمت قضية إبليس وأنه كفر بها وليس الكفر بسبب ترك السجود ومخالفة الأمر وإلا كان يلزم أن كل عاص كافر وليس الأمر كذلك بل إنما كفر إبليس بنسبة الله تعالى إلى الجور وأنه أمر بالسجود لمن هو أولى أن يسجد له وأن ذلك ليس عدلا لقوله { أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين } فهذا منه إشارة إلى التجوير والتسفيه ومن نسب الله تعالى إلى ذلك فلا شك في كفره فهذه الجراءة على الله تعالى هي سبب كفره ولا يقال : إنما كفر بسبب الكبر على آدم لقوله أنا خير منه فإنه كان يلزم منه أن كل متكبر كافر وليس الأمر كذلك نعم أن من تكبر على الله تعالى وعن أن يكون مطيعا له في أوامره فهو كافر وبالجملة فعلى الفقيه أن يستقرئ كتب الفقهاء في المسائل التي يكفر بها المتفق عليها والمختلف فيها فإذا كمل استقراؤه نظر إلى أقربها إلى عدم التكفير بالنظر السديد إن كان من أهل النظر في هذه المسائل فإنه ليس كل الفقهاء له أهلية النظر في مسائل التكفير .

[ ص: 125 ] فإذا صح ذلك اعتقد حينئذ أن تلك الرتبة أدنى رتبة التكفير وأن ما دونها أعلى رتبة للكبائر وكذلك إذا استقرأ رتب الكبائر المتفق عليها والمختلف فيها فإذا كمل استقراؤه نظر إلى أقلها مفسدة جعلها أدنى رتب الكبائر والتي دونها هي أعلى رتب الصغائر وأكمل البحث في هذا الموطن بذكر مسألتين .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال : ( سؤال ما ضابط قاعدة الإصرار المصير للصغيرة كبيرة إلى قول بعض العلماء فاجعل ذلك قادحا وما لا فلا ) قلت : ما قاله : صحيح .

قال : ( وكذلك الأمور المباحة متى تكررت ) قلت : قوله هذا ظاهره أن المباحات متى تكررت أوجبت عدم الوثوق ممن تكررت منه قلت : وليس ذلك كذلك ولكنه من المباحات ما لا يبيح الشرع فعله بمحضر الناس ففعل هذا معصية لاحقة بسائر .

[ ص: 123 ] المعاصي ومنها ما لم تجر به عادة مشعرة بخلل حدث له في عقله وخلل العقل لا يؤمن معه قلة الضبط فليس قدح فعل هذه المباحات في الشهادة من الوجه التي تقدح فيها فعل المخالفات فإن فعل المخالفات قادح في العدالة وفعل هذه المباحات قادح في الضبط .

قال : ( ومتى تكررت الصغيرة مع تخلل التوبة والندم أو من أنواع مختلفة مع عدم اشتمال القلب على العزم على العودة لا يقدح في الشهادة ) قلت : أما قوله متى تكررت الصغيرة مع تخلل التوبة والندم فصحيح وأما قوله أو من أنواع مختلفة مع عدم اشتمال القلب على العزم على العودة فليس بصحيح فإن تكرر الصغائر وإن اختلفت توجب عدم الوثوق بدين فاعلها مثل ما يوجب تكررها إذا اتفقت مع أن اشتراط عدم اشتمال القلب على العزم على العودة لا يصح ألبتة لأن ذلك أمر باطن لا يطلع عليه ولا يصح التعبد في الأمور الظواهر بما في البواطن والعدالة من ظواهر الأمور لا من بواطنها وكذلك جميع الأحكام الدنيوية المفتقر فيها إلى الحكام .

قال : ( إذا تحرر بالتقريب الكبائر من الصغائر وأن ذلك يرجع إلى عظم المفسدة فنرجع إلى تحرير ما يعلم به الكفر من الكبائر فنقول : أصل الكفر اهتضام جانب الربوبية ولكن ليس ذلك على الإطلاق ) قلت : ليس الكفر اهتضام جانب الربوبية وما أرى أن أحدا ممن يدين بالربوبية يهتضم جانبها وإن وجد من يهتضم جانبها فليس في الحقيقة ممن يدين بها ولكن أصل الكفر الجهل بالربوبية .

قال : ( فقد يكون الاهتضام بالكبيرة أو بالصغيرة وليستا كفرا ) قلت : ليس ذلك بصحيح فإن فاعل الكبيرة أو الصغيرة لا يفعلها اهتضاما للربوبية ولا تهاونا بها وإنما يفعلها جراءة على مخالفة أمره لاستيلاء الشهوة عليه .

قال : ( بل لا بد من الوصول إلى رتبة خاصة من ذلك وتحريره أن الكفر قسمان : متفق عليه ومختلف فيه إلى قوله أو ليس بحي ونحوه ) قلت : ما ذكره من الأمور المتفق على أنها كفر هو كما ذكر .

قال : ( وأما المختلف فيه فكالتجسيم إلى قوله . [ ص: 124 ] ولعل غير القاضي والأشعري يوافقهما في هذه الصورة ) قلت : ذلك نقل لا كلام فيه .

قال : ( ومن المجمع عليه فيما علمته قضية إبليس إلى قوله نعم من تكبر على الله تعالى وعن أن يكون مطيعا له في أوامره فهو كافر ) قلت : ما قاله : من أن كفر إبليس إنما هو بنسبته إلى الله الجور وتكبره عليه لا بمجرد ترك ما أمر به من السجود لآدم عليه السلام واعتقاده كونه خيرا منه هو الذي تقتضيه القواعد المستفادة من الشرع مع أنه يجوز عقلا أن يكون كفره بمجرد مخالفته .

قال : ( وبالجملة فعلى الفقيه أن يستقرئ كتب الفقهاء في المسائل التي يكفر بها المتفق عليها والمختلف فيها فإذا كمل استقراؤه ) قلت : إن أراد كمل استقراؤه لما بلغه من ذلك فلا اعتبار به فإنه لعله بقي ما لم يبلغه ويكون فيما لم يبلغه رتب من الكفر وإن أراد كمل استقراؤه في نفس الأمر أي لم يبق له من الأقوال قول إلا حفظه ولا من جملة وجوه التكفير شيء إلا تضمنته أقوال من حفظ أقوالهم فمن أين يعرف ذلك وما الدليل الذي يدل عليه .

قال : ( فإذا كمل استقراؤه نظر إلى أقربها إلى عدم التكفير بالنظر السديد إن كان من أهل النظر في هذه المسائل فإنه ليس كل الفقهاء له أهلية النظر في مسائل التكفير ) .

[ ص: 125 ] قلت : إن أراد بالفقهاء من حصل رتبة الاجتهاد فكلهم له أهلية النظر في مسائل التكفير وفي غيرها على أصح القولين وهو أن الاجتهاد لا يتبعض ولا تصح له رتبة حتى يحصل جميع العلوم المشترطة في الاجتهاد على الكمال وإن أراد من لم يحصل رتبة الاجتهاد ممن يطلق عليه اسم الفقيه بضرب من التوسع أو المجاز فلا اعتبار بهم .

قال : ( فإذا صح ذلك اعتقد حينئذ أن تلك الرتبة أدنى رتب التكفير وأن ما دونها أعلى رتب الكبائر إلى قوله والتي دونها هي أعلى رتب الصغائر ) قلت : جميع ما قاله في ذلك إحالة على مستحيل عادة وهو كمال استقراء أقوال جميع علماء الإسلام ثم يقال له : لا بد للعلماء الذين أشار إلى استقراء أقوالهم من العلم بفارق يفرق به كل واحد منهم بين أدنى رتب الكفر وأعلى رتب الكبائر فما المانع لهذا المتعلم أن يتعلمه حتى لا يحتاج إلى استقراء أقوالهم وبالجملة لم يأت في هذا الفصل الإباحة على جهالة .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

وضابط قاعدة الإصرار المصير للصغيرة كبيرة هو أنه متى حصل من تكرارها مع البقاء على عدم التوبة والندم ما يحصل من ملابسة الكبيرة مما يوجب عدم الوثوق بالفاعل في دينه وإقدامه على الكذب في الشهادة فاجعل ذلك قادحا وما لا فلا كما إذا حصل من تكررها ذلك مع تخلل التوبة والندم وأما المباحات فمنها ما لا يبيح الشرع فعله بمحضر الناس فيكون تكرر فعلها بمحضرهم كذلك قادحا في الشهادة لكون فعلها حينئذ معصية لاحقة بسائر المعاصي ومنها ما لم تجر به عادة فتكون مشعرة بخلل حدث في عقل فاعلها فتقدح في الضبط لا في العدالة لأن خلل العقل لا يؤمن معه قلة الضبط .

( فائدة ) قال الشيخ المقري : شهدت الشمس ابن القيم مقيم الحنابلة بدمشق وهو أكبر أصحاب ابن تيمية وقد سئل عن حديث { من مات له ثلاث من الولد كانوا له حجابا من النار } كيف إن أتى بعدها بكبيرة فقال : موت الولد حجاب والكبيرة خرق لذلك الحجاب .

وإنما يحجب الحجاب إذ لم يخرق فإذا خرق لم يكن حجابا بدليل حديث الصوم جنة ما لم يخرقها ا هـ نقله التنبكتي في تكملة الديباج وأما الفرق بين الكفر والكبائر فهو أن أصل الكفر الجهل بالربوبية وأصل الكبائر الجرأة على مخالفة أمر الله تعالى بفعل ما نهى عنه وعظمت مفسدته لاستيلاء الشهوة عليه فما كان من المعاصي مقتضيا الجهل بالربوبية نصا من نحو الشرك بالله وجحد ما علم من الدين بالضرورة كجحد وجوب الصلاة ونحوهما ونحو إلقاء المصحف في القاذورات وجحد البعث أو النبوات أو وصفه تعالى بكونه لا يعلم أو لا يريد أو ليس بحي ونحوه فهو الكفر المتفق عليه ومنه قضية إبليس فإن الذي تقتضيه القواعد المستفادة من الشرع هو أن كفره إنما هو بنسبته إلى الله تعالى الجور وتكبره عليه لا بمجرد ترك ما أمر به من السجود لآدم عليه السلام واعتقاده كونه خيرا منه وإلا للزم أن كل عاص وكل متكبر كافر وليس الأمر كذلك نعم يجوز عقلا أن [ ص: 137 ] يكون كفره بمجرد مخالفته وما كان منها مقتضيا ذلك احتمالا لا نصا فهو الكفر المختلف فيه كالتجسيم وأن العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية وأن إرادة الله ليست بواجبة النفوذ وأنه تعالى في جهة وأنه ليس بمنزه ونحو ذلك من اعتقادات أرباب الأهواء فلمالك والشافعي وأبي حنيفة والقاضي أبي بكر الباقلاني والأشعري فيهم قولان بالتكفير وعدمه والتكفير بترك الصلاة قول ابن حنبل وعدمه قول مالك والشافعي وقال القاضي أبو بكر : من كفر جملة الصحابة فهو كافر لأن تكفيرهم يلزم إبطال الشريعة لأنهم أصلها وعنهم أخذت وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري إرادة الكفر كبناء كنيسة يكفر فيها بالله كفر ومن قتل نبيا بقصد إماتة شريعته مع تصديقه له فهو كافر ولعل غير القاضي والأشعري يوافقهما في هذه الصورة .

وما كان منها ليس مقتضيا ذلك أصلا بل إنما يقتضي الجرأة على مخالفة أمره تعالى بفعل ما نهى عنه وعظمت مفسدته لاستيلاء الشهوة عليه فهو الكبيرة كقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ويوضح هذا الفرق مسألتان .




الخدمات العلمية