الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
144 [ ص: 14 ]

حديث رابع وخمسون ليحيى بن سعيد

757 مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال : دخل أعرابي المسجد فكشف ، عن فرجه ليبول فصاح الناس به حتى علا الصوت فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اتركوه فتركوه فبال ، ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذنوب من ماء ، فصب على ذلك المكان .

التالي السابق


الذنوب : الدلو الكبيرة ههنا ، وقد يكون الذنوب الحظ والنصيب من قوله تعالى ( ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم )

هذا حديث مرسل في الموطأ ، عند جماعة الرواة ، وقد روي مسندا متصلا ، عن يحيى بن سعيد عن أنس من وجوه صحاح ، وهو محفوظ ثابت من حديث أنس ومن حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ههنا حديث أنس خاصة ; لأنه عنه رواه يحيى بن سعيد .

حدثنا أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن قراءة مني عليه ، أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : أخبرنا يحيى بن سعيد قال : سمعت أنس بن مالك يقول : دخل أعرابي المسجد ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقضى حاجته ، فلما قام بال في ناحية المسجد فصاح به [ ص: 15 ] الناس ، فكفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى فرغ من بوله ، ثم دعا بدلو من ماء فصبه على بول الأعرابي .

وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل قال : حدثنا نعيم بن حماد وحدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا سويد بن نصر قالا جميعا : أخبرنا عبد الله بن المبارك قال : أخبرنا يحيى بن سعيد الأنصاري قال : سمعت أنس بن مالك يقول : جاء أعرابي إلى المسجد قال : فبال قال : فصاح به الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اتركوه . فتركوه حتى بال ، ثم أمر بدلو فصب عليه .

وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا عبدة عن يحيى بن سعيد عن أنس قال : بال أعرابي في المسجد فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بدلو من ماء فصب عليه .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال : سمعت أنس بن مالك يقول : إن أعرابيا بال في المسجد فذهب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمنعونه فقال : دعوه ، ثم أمر بماء فصب عليه .

ورواه ثابت البناني وإسحاق بن أبي طلحة عن أنس مثله [ ص: 16 ] .

أخبرنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا حماد عن ثابت عن أنس : أن أعرابيا بال في المسجد فقام إليه بعض القوم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : دعوه ، لا تزرموه ، فلما فرغ دعا بدلو فصبه عليه .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن أسد قال : حدثنا سعيد بن السكن قال : حدثنا محمد بن يوسف قال : حدثنا البخاري حدثنا موسى بن إسماعيل وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا عبد الحميد بن أحمد الوراق حدثنا الخضر بن داود حدثنا أبو بكر الأثرم حدثنا مسلم بن إبراهيم قالا جميعا : حدثنا همام قال : حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك : أن أعرابيا أتى المسجد ، فبال فيه فسكت عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم دعا بماء فصبه عليه .

ورواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة وعن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وهذا الحديث أصح حديث يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الماء ، وهو ينفي التحديد في مقدار الماء الذي تلحقه النجاسة ، ويقضي أن الماء طاهر مطهر لكل ما غلب عليه ، وأن كل ما مازجه من النجاسات ، وخالطه من الأقذار لا يفسده إلا أن يظهر ذلك فيه ، أو يغلب عليه فإن [ ص: 17 ] كان الماء غالبا مستهلكا النجاسات فهو مطهر لها وهي غير مؤثرة فيه ، وسواء في ذلك قليل الماء وكثيره ، هذا ما يوجبه هذا الحديث ، وإليه ذهب جماعة من أهل المدينة منهم سعيد بن المسيب وابن شهاب وربيعة وهو مذهب المدنيين من أصحاب مالك ومن قال بقولهم من البغداديين ، وهو مذهب فقهاء البصرة ، وإليه ذهب داود بن علي

وهو أصح مذهب في الماء من جهة الأثر ، ومن جهة النظر لأن الله قد سمى الماء المطلق طهورا يريد طاهرا مطهرا فاعلا في غيره ، وقد بينا وجه ذلك في اللغة في باب إسحاق .

وقال - صلى الله عليه وسلم - : الماء لا ينجسه شيء يعني إلا ما غلب عليه فغيره : يريد في طعم ، أو لون ، أو ريح ، وقد أوضحنا هذا المعنى ، وذكرنا فيه اختلاف العلماء ، وبينا موضع الاختيار عندنا في ذلك ممهدا مبسوطا في باب إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة من هذا الكتاب فلا معنى لتكرير ذلك ههنا ، والحمد لله .

وهذا الحديث ينقض على أصحاب الشافعي ما أصلوه في الفرق بين ورود النجاسة على الماء ، وبين وروده عليها لأنهم يقولون إن ورود الماء في الأرض على النجاسة ، أو في مستنقع مثل الإناء وشبهه ، أنه لا يطهره حتى يكون الماء قلتين ، وقد علمنا أن الذنوب الذي صبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بول الأعرابي لم يعتبر فيه قلتين ، ولو كان في الماء [ ص: 18 ] مقدار يراعى لاعتبر ذلك في الصب على بول الأعرابي ، ومعلوم أن ذلك الذنوب ليس بمقدار القلتين الذي جعله الشافعي حدا ، والله أعلم .

ومن أصحاب الشافعي من فرق بين ورود الماء على النجاسات ، وبين ورودها عليه فاعتبر مقدار القلتين في ورود النجاسة على الماء ، ولم يعتبر ذلك في ورود الماء عليها بحديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غسل اليد لمن استيقظ من نومه قبل أن يدخلها في الإناء ، وقد أوضحنا هذا المعنى في باب أبي الزناد والحمد لله .

وأما الحديث الذي ذهب إليه الشافعي في هذا الباب حديث القلتين فإنه حديث يدور على محمد بن جعفر بن الزبير وهو شيخ ليس بحجة فيما انفرد به .

رواه عنه محمد بن إسحاق والوليد بن كثير فبعضهم يقول فيه ، عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه ، وبعضهم يقول فيه ، عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه .

وقد رواه حماد بن سلمة عن عاصم بن المنذر عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه ، وكلهم يرفعه وعاصم بن المنذر عندهم لين ليس بحجة [ ص: 19 ] .

قال إسماعيل بن إسحاق هذان شيخان يعني محمد بن جعفر بن الزبير وعاصم بن المنذر لا يحتملان التفرد بمثل هذا الحكم الجليل ، ولا يكونان حجة فيه .

قال : ومقدار القلتين غير معلوم قال ، ومن ذهب إلى أنها قلال هجر فمحال أن يسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة سنة على قلال هجر مع اختلافها ، وأكثر من القول في ذلك .

قال أبو عمر : إذا لم يصح حديث القلتين في التحديد المفرق بين قليل الماء الذي تلحقه النجاسة ، وبين الكثير منه الذي لا تلحقه إلا بأن يغلب عليه في ريح ، أو لون ، أو طعم فلا وجه للفرق بين اليسير من الماء ، والكثير منه من جهة النظر إذا لم يصح فيه أثر ، وما رواه أهل المغرب عن مالك في ذلك فعلى وجه التنزه ، والاستحباب ، والله الموفق للصواب ، وما مضى في هذا المعنى في باب إسحاق وأبي الزناد كاف إن شاء الله



الخدمات العلمية