الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الوقوف بعرفة قال الله تعالى : فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام قال أبو بكر : [ ص: 387 ] قد دل ذلك على أن مناسك الحج الوقوف بعرفة ، وليس في ظاهره دلالة على أنه من فروضه ، فلما قال في سياق الخطاب : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس أبان بذلك عن فرض الوقوف ولزومه وذلك لأن أمره بالإفاضة مقتض للوجوب ، ولا تكون الإفاضة فرضا إلا والكون بها فرضا حتى يفيض منها ؛ إذ لا يتوصل إلى الإفاضة إلا بكونه قبلها هناك .

وقد اختلف في تأويل قوله : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فروي عن عائشة وابن عباس وعطاء والحسن ومجاهد وقتادة والسدي : أنه أراد الإفاضة من عرفة ، قالوا : وذلك ؛ لأن قريشا ومن دان دينها يقال لهم الحمس كانوا يقفون بالمزدلفة ويقف سائر العرب بعرفات ، فلما جاء الإسلام أنزل الله تعالى على نبيه : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا ومن دان دينها أن يأتوا عرفات فيقفوا بها مع الناس ويفيضوا من حيث أفاض الناس . وحكي عن الضحاك أنه أراد به الوقوف بالمزدلفة وأن يفيضوا من حيث أفاض إبراهيم عليه السلام . وقيل : إنه إنما قال : " الناس " وأراد إبراهيم وحده ، كما قال تعالى : الذين قال لهم الناس وكان رجلا واحدا . ولأن إبراهيم عليه السلام لما كان الإمام المقتدى به سماه الله تعالى أمة كان بمنزلة الأمة التي تتبع سنته ، جاز إطلاق اسم الناس ، والمراد به هو وحده . والتأويل الأول هو الصحيح لاتفاق السلف عليه ، والضحاك لا يزاحم به هؤلاء ، فهو قول شاذ . وإنما ذكر الناس هاهنا وأمر قريشا بالإفاضة من حيث أفاض الناس ؛ لأنهم كانوا أعظم الناس ، وكانت قريش ومن دان دينها قليلة بالإضافة إليهم ؛ فلذلك قال : من حيث أفاض الناس

فإن قيل : لما قال : فإذا أفضتم من عرفات ثم عقب ذلك بقوله : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس و " ثم " يقتضي الترتيب لا محالة ، علمنا أن هذه الإفاضة هي بعد الإفاضة من عرفات ، وليس بعدها إفاضة إلا من المزدلفة وهي المشعر الحرام ، فكان حمله على ذلك ، أولى منه على الإفاضة من عرفة ؛ ولأن الإفاضة من عرفة قد تقدم ذكرها فلا وجه لإعادتها .

قيل له : إن قوله تعالى : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس عائد إلى أول الكلام ، وهو الخطاب بذكر الحج وتعليم مناسكه وأفعاله ، فكأنه قال : " يا أيها المأمورون بالحج من قريش بعد ما تقدم ذكرنا له أفيضوا من حيث أفاض الناس " فيكون ذلك راجعا إلى صلة خطاب المأمورين ، وهو كقوله تعالى : ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن والمعنى : بعد ما ذكرنا لكم أخبرنا كم أنا آتينا موسى [ ص: 388 ] الكتاب تماما على الذي أحسن . ويجوز أن يكون " ثم " بمعنى " الواو " فيكون تقديره : وأفيضوا من حيث أفاض الناس ؛ كما قال تعالى : ثم كان من الذين آمنوا معناه : وكان من الذين آمنوا ، وقوله : ثم الله شهيد على ما يفعلون معناه : والله شهيد . فإذا كان ذلك سائغا في اللغة ثم روي عن السلف ما ذكرنا ، لم يجز العدول عنه إلى غيره .

وأما قولك " إن ذكر عرفات قد تقدم في قوله : فإذا أفضتم من عرفات فلا يكون لقوله : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس وجه " فليس كذلك ؛ لأن قوله فإذا أفضتم من عرفات لا دلالة فيه على إيجاب الوقوف ، وقوله : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس هو أمر لمن لم يكن يقف بعرفة من قريش فقد أفاد به من إيجاب الوقوف ما لم يتضمنه قوله : فإذا أفضتم من عرفات إذ لا دلالة في قوله : فإذا أفضتم من عرفات على فرض الوقوف . ومع ذلك فلو اقتصر على قوله : فإذا أفضتم من عرفات لكان جائزا أن يظن ظان أنه خطاب لمن كان يقف بها دون من لم يكن يرى الوقوف بها ، فيكون التاركون للوقوف على جملة أمرهم في الوقوف بالمزدلفة دون عرفات ، فأبطل ظن الظان لذلك بقوله : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واتفقت الأمة مع ذلك على أن تارك الوقوف بعرفة لا حج له ، ونقلته عن النبي صلى الله عليه وسلم قولا وعملا . وروى بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف الحج ؟ قال : الحج يوم عرفة ، من جاء عرفة ليلة جمع قبل الصبح ، أو يوم جمع فقد تم حجه .

وروى الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بالمزدلفة : من صلى معنا هذه الصلاة ووقف معنا هذا الموقف وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا ، أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه . وقد روي عن ابن عباس وابن عمر ، وابن الزبير وجابر : " إذا وقف قبل طلوع الفجر فقد تم حجه " ، والفقهاء مجمعون على ذلك وقد اختلف الفقهاء في من لم يقف بعرفة ليلا ، فقال سائرهم : إذا وقف نهارا فقد تم حجه ، وإن دفع منها قبل غروب الشمس فعليه دم عند أصحابنا إن لم يرجع قبل الإمام ، وقال مالك بن أنس : " إن لم يرجع حتى طلع الفجر بطل حجه " وأصحابه يزعمون أنه قال ذلك ؛ لأن مذهبه أن فرض الوقوف بالليل دون النهار ، وأن الوقوف نهارا غير مفروض وإنما هو مسنون .

وروي عن ابن الزبير أن من دفع من عرفات قبل غروب الشمس فسد حجه ، والدليل على صحة القول الأول قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عروة بن مضرس وأفاض من عرفة قبل ذلك ليلا ، أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه فحكم بصحة [ ص: 389 ] حجه وإتمامه بوقوفه في أحد الوقتين من ليل ، أو نهار . ويدل عليه أيضا قوله تعالى : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس و ( حيث ) اسم للموضع ، وهو عرفات ، فكان بمنزلة قوله : أفيضوا من عرفات ولم يخصصه بليل ولا نهار ، وليس فيه ذكر للوقت ، فاقتضى ذلك جوازه في أي وقت وقف فيه . ويدل عليه من جهة النظر أنا وجدنا سائر المناسك ابتداؤها بالنهار ، وإنما يدخل فيه الليل تبعا ، ولم نجد شيئا منها يختص بالليل حتى لا يصح فعله في غيره فقول من جعل فرض الوقوف بالليل خارج عن الأصول ، ألا ترى أن طواف الزيارة ، والوقوف بالمزدلفة ، والرمي ، والذبح ، والحلق كل ذلك مفعول بالنهار ؟ وإنما يفعل بالليل على أنه يؤخر عن وقته على وجه التبع للنهار ، فوجب أن يكون ذلك حكم الوقوف بعرفة

وأيضا قد نقلت الأمة وقوف النبي صلى الله عليه وسلم نهارا إلى يومنا هذا ، وأنه دفع منها عند سقوط الفرض ، وهذا يدل على أن وقت الوقوف هو النهار ، ووقت الغروب هو الدفع ، فاستحال أن يكون الدفع هو وقت الفرض ، ووقت الوقوف لا يكون وقتا للفرض . وأيضا لما قيل يوم عرفة " ونقلت هذه التسمية عن النبي صلى الله عليه وسلم في أخبار كثيرة ، منها : إن الله تعالى يباهي ملائكته يوم عرفة ومنها : إن صيام يوم عرفة يعدل صيام سنة ولذلك أطلقت الأمة ذلك عليه ، دل على أن النهار وقت الفرض فيه ، وأن الوقوف ليلا إنما يفعله من وقف فائتا ؛ ألا ترى أنه لما قيل : " يوم الجمعة ، ويوم الأضحى ، ويوم الفطر " كانت هذه الأفعال واقعة في هذه الأيام نهارا ولذلك أضيفت إليها ؟ فدل ذلك على أن فرض الوقوف يوم عرفة ، وأنه يفعل ليلا على وجه القضاء لما فاته ، كما يرمي الجمار ليلا على وجه القضاء لما فاته نهارا ، وكذلك الطواف ، والذبح ، والحلق واختلف في موضع الوقوف ، فروى جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل عرفات موقف وارفعوا عن عرنة ، وكل مزدلفة موقف وارفعوا عن محسر .

وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كل عرفة موقف . وقال ابن عباس : " ارتفعوا عن وادي عرفة ، والمنبر عن مسيلة فما فوق ذلك موقف " ولم يختلف رواة الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع من عرفة بعد غروب الشمس ؛ وقد روي أن أهل الجاهلية كانوا يدفعون منها إذا صارت الشمس على رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم ، وأنهم كانوا يدفعون من المزدلفة بعد طلوع الشمس ، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم ودفع من عرفات بعد الغروب ومن المزدلفة قبل الطلوع .

وروى سلمة بن كهيل عن الحسن العرني عن ابن عباس قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس [ ص: 390 ] يوم عرفة فقال : يا أيها الناس ليس البر في إيجاف الخيل ولا في إيضاع الإبل ولكن سيرا حسنا جميلا ، ولا توطئوا ضعيفا ولا تؤذوا مسلما .

وروى هشام بن عروة عن أبيه عن أسامة بن زيد قال : كان سيرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يدفع من عرفات العنق ، غير أنه كان إذا وجد فجوة نص . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية