الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          البحث الرابع ، في مقتضى صيغة الأمر وفيه اثنتا عشرة مسألة .

          المسألة الأولى

          فيماذا صيغة الأمر حقيقة فيه إذا وردت مطلقة عرية عن القرائن ، وقد اتفق الأصوليون على إطلاقها بإزاء خمسة عشر اعتبارا [1] .

          الوجوب ، كقوله : ( أقم الصلاة ) .

          والندب ، كقوله : ( فكاتبوهم ) .

          والإرشاد ، كقوله تعالى : ( فاستشهدوا ) ، وهو قريب من الندب لاشتراكهما في طلب تحصيل ، غير أن الندب لمصلحة أخروية ، والإرشاد لمصلحة دنيوية .

          والإباحة كقوله : ( فاصطادوا ) .

          والتأديب ، وهو داخل في الندب كقوله : " كل مما يليك " [ ص: 143 ] والامتنان ، كقوله : ( كلوا مما رزقكم الله ) والإكرام ، كقوله : ( ادخلوها بسلام ) والتهديد ، كقوله : ( اعملوا ما شئتم ) والإنذار ، كقوله : ( تمتعوا ) وهو في معنى التهديد .

          والتسخير ، كقوله : ( كونوا قردة خاسئين ) والتعجيز ، كقوله : ( كونوا حجارة ) والإهانة ، كقوله تعالى : ( ذق إنك أنت العزيز ) والتسوية ، كقوله : ( فاصبروا أو لا تصبروا ) والدعاء ، كقوله : ( اغفر لي ) والتمني ، كقول الشاعر : (

          ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي

          ) [2] وكمال القدرة ، كقوله : ( كن فيكون ) .

          وقد اتفقوا على أنها مجاز فيما سوى الطلب ، والتهديد ، والإباحة ، غير أنهم اختلفوا ، فمنهم من قال : إنها مشتركة كاشتراك لفظ القرء بين الطلب للفعل ، وبين التهديد المستدعي لترك الفعل ، وبين الإباحة المخيرة بين الفعل والترك .

          ومنهم من قال : إنها حقيقة في الإباحة مجاز فيما سواها ، ومنهم من قال : إنها حقيقة في الطلب ، ومجاز فيما سواه ، وهذا هو الأصح .

          وذلك لأنا إذا سمعنا أن أحدا قال لغيره ( افعل كذا ) وتجرد ذلك عن جميع القرائن ، وفرضناه كذلك ، فإنه يسبق إلى الإفهام منه طلب الفعل واقتضاؤه من غير توقف على أمر خارج دون التهديد المستدعي لترك الفعل والإباحة المخيرة بين الفعل والترك .

          ولو كان مشتركا [3] أو ظاهرا في الإباحة ، لما كان كذلك .

          وإذا كان الطلب هو السابق إلى الفهم عند عدم القرائن مطلقا ، دل ذلك على كون صيغة ( افعل ) ظاهرة فيه .

          فإن قيل : يحتمل أن يكون ذلك بناء على عرف طارئ على الوضع اللغوي ، كما في لفظ الغائط والدابة ، وإن سلم دلالة ما ذكرتموه على الظهور في الطلب .

          [ ص: 144 ] غير أنه معارض بما يدل على ظهوره في الإباحة ، لكونها أقل الدرجات فكانت مستيقنة .

          قلنا : جواب الأول أن الأصل عدم العرف الطارئ وبقاء الوضع الأصلي بحاله .

          وجواب الثاني : لا نسلم أن الإباحة متيقنة ، إذ هي مقابلة للطلب والتهديد ، لكونها غير مستدعية للفعل ولا للترك ، والطلب مستدع للفعل ، والتهديد مستدع لترك الفعل ، فلا تيقن لواحد منهما [4] .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية