الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ( 1 ) )

قال أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - ، معجبا خلقه المؤمنين من كفرة عباده ، ومحتجا على الكافرين : إن الإله الذي يجب عليكم - أيها الناس - حمده ، هو الذي خلق السماوات والأرض ، الذي جعل منهما معايشكم وأقواتكم ، وأقوات أنعامكم التي بها حياتكم . فمن السماوات ينزل عليكم الغيث ، وفيها تجري الشمس والقمر باعتقاب واختلاف لمصالحكم . ومن الأرض ينبت الحب الذي به غذاؤكم ، والثمار التي فيها ملاذكم ، مع غير ذلك من الأمور التي فيها مصالحكم ومنافعكم بها والذين يجحدون نعمة الله عليهم بما أنعم به عليهم من خلق ذلك لهم ولكم ، [ ص: 252 ] أيها الناس " بربهم " الذي فعل ذلك وأحدثه " يعدلون " يجعلون له شريكا في عبادتهم إياه ، فيعبدون معه الآلهة والأنداد والأصنام والأوثان ، وليس منها شيء شركه في خلق شيء من ذلك ، ولا في إنعامه عليهم بما أنعم به عليهم ، بل هو المنفرد بذلك كله ، وهم يشركون في عبادتهم إياه غيره . فسبحان الله ما أبلغها من حجة ، وأوجزها من عظة ، لمن فكر فيها بعقل ، وتدبرها بفهم !

ولقد قيل : إنها فاتحة التوراة .

ذكر من قال ذلك :

13042 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمي ، عن أبي عمران الجوني ، عن عبد الله بن رباح ، عن كعب قال : فاتحة التوراة فاتحة " الأنعام " : " الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " .

13043 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا زيد بن حباب ، عن جعفر بن سليمان ، عن أبي عمران الجوني ، عن عبد الله بن رباح ، عن كعب مثله وزاد فيه : وخاتمة التوراة خاتمة " هود " .

يقال من مساواة الشيء بالشيء : " عدلت هذا بهذا " إذا ساويته به ، " عدلا " . وأما في الحكم إذا أنصفت فيه ، فإنك تقول : " عدلت فيه أعدل عدلا " . [ ص: 253 ]

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : " يعدلون " قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

13044 - حدثني ابن محمد عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " يعدلون " قال : يشركون .

ثم اختلف أهل التأويل فيمن عني بذلك :

فقال بعضهم : عني به أهل الكتاب .

ذكر من قال ذلك :

13045 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن ابن أبزى قال : جاءه رجل من الخوارج يقرأ عليه هذه الآية : " الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " قال له : أليس الذين كفروا بربهم يعدلون؟ قال : بلى ! قال : وانصرف عنه الرجل ، فقال له رجل من القوم : يا ابن أبزى ، إن هذا قد أراد تفسير هذه غير هذا! إنه رجل من الخوارج ! فقال : ردوه علي . فلما جاءه قال : هل تدري فيمن نزلت هذه الآية؟ قال : لا! قال : إنها نزلت في أهل الكتاب ، اذهب ، ولا تضعها على غير حدها . [ ص: 254 ]

وقال آخرون : بل عني بها المشركون من عبدة الأوثان .

ذكر من قال ذلك :

13046 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " قال : هؤلاء أهل صراحيه .

13047 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " قال : هم المشركون .

13048 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " قال : الآلهة التي عبدوها ، عدلوها بالله . قال : وليس لله عدل ولا ند ، وليس معه آلهة ، ولا اتخذ صاحبة ولا ولدا .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال : إن الله - تعالى ذكره - أخبر أن الذين كفروا بربهم يعدلون ، فعم بذلك جميع الكفار ، ولم يخصص منهم بعضا دون بعض . فجميعهم داخلون في ذلك : يهودهم ، ونصاراهم ، ومجوسهم ، وعبدة الأوثان منهم ومن غيرهم من سائر أصناف الكفر .

التالي السابق


الخدمات العلمية