الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            وقال صلى الله عليه وسلم ، كما في الصحيح : «من لي بكعب بن الأشرف ؛ فقد آذى الله ورسوله ؟ » .

            وفي رواية : «فقد آذانا بشعره وقوى المشركين علينا» . فقال محمد بن مسلمة : أنا لك به يا رسول الله ، أنا أقتله . قال : «أنت له فافعل إن قدرت على ذلك» .

            [وفي رواية عروة عند ابن عائذ ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن قلت (بهذا) احتمل أن يكون سكت أولا ثم أذن] . فرجع محمد بن مسلمة ، فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما تعلق به نفسه . فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاه فقال له : «لم تركت الطعام والشراب ؟ » فقال : يا رسول الله قلت لك قولا لا أدري هل أفين لك به أم لا . فقال : «إنما عليك الجهد» .

            وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «شاور سعد بن معاذ في أمره» فشاوره فقال له : توجه إليه واذكر له الحاجة وسله أن يسلفكم طعاما .

            فاجتمع [في قتله] محمد بن مسلمة ، وعباد بن بشر ، وأبو نائلة سلكان بن سلامة ، والحارث بن أوس بن معاذ ، بعثه عمه سعد بن معاذ ، وأبو عبس بن جبر ، فقالوا : «يا رسول الله نحن نقتله؛ فأذن لنا فلنقل شيئا؛ فإنه لا بد لنا من أن نقول» . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قولوا ما بدا لكم؛ فأنتم في حل من ذلك»
            .

            فخرج أبو نائلة كما قال جل أئمة المغازي ، وكان أخا كعب من الرضاعة . وفي الصحيح : خرج إليه محمد بن مسلمة .

            فلما رآه كعب أنكر شأنه وذعر منه . فقال أبو نائلة أو محمد بن مسلمة : حدثت حاجة .

            فقال كعب ، وهو في نادي قومه وجماعتهم : ادن إلي فخبرني بحاجتك . فتحدثنا ساعة ، وأبو نائلة أو محمد بن مسلمة يناشده الشعر . فقال كعب : ما حاجتك ، لعلك تحب أن تقوم من عندنا . فلما سمع القوم قاموا .

            فقال محمد بن مسلمة أو أبو نائلة : «إن هذا الرجل قد سألنا صدقة ، ونحن لا نجد ما نأكل ، وإنه قد عنانا» . قال كعب : «وأيضا والله لتملنه» . وفي غير الصحيح : فقال أبو نائلة : «إني قد جئتك في حاجة أريد أن أذكرها لك فاكتم عني» . قال : «أفعل» . قال : «كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء ، عادتنا العرب ورمونا عن قوس واحدة ، وقطعت عنا السبل ، حتى ضاع العيال وجهدت الأنفس ، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا» . فقال كعب بن الأشرف : «أما والله لقد كنت أخبرك يا ابن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما أقول ، ولكن اصدقني ما الذي تريدون من أمره ؟ » قال : «خذلانه والتنحي عنه» .

            قال : «سررتني ألم يأن لكم أن تعرفوا ما عليه من الباطل ؟ » . فقال له أبو نائلة أو محمد بن مسلمة : «معي رجال من أصحابي على مثل رأيي ، وقد أردت أن آتيك بهم فنبتاع منك تمرا وطعاما وتحسن إلينا ، ونرهنك ما يكون ذلك فيه ثقة» . وفي صحيح مسلم : «وواعده أن يأتيه بالحارث وأبي عبس بن جبر ، وعباد بن بشر . قال [كعب] : «أما والله ما كنت أحب يا أبا نائلة أن أرى بك هذه الخصامة وإن كنت من أكرم الناس ، على ماذا ترهنوني ؟ [أترهنوني] أبناءكم ؟ » قال : «إنا نستحي أن يعير أبناؤنا فيقال ، هذا رهينة وسق ، وهذا رهينة وسقين» . قال :

            «فارهنوني نساءكم» . قال : «لقد أردت أن تفضحنا وتظهر أمرنا ، أنت أجمل الناس ولا نأمنك ، وأي امرأة تمتنع منك لجمالك ، ولكنا نرهنك من السلاح والحلقة ما ترضى به ، ولقد علمت حاجتنا إلى السلاح اليوم» . قال كعب : «إن في السلاح لوفاء» . وأراد أبو نائلة ألا ينكر السلاح إذا جاءوا به . فسكن إلى قوله ، وقال : «جئ به متى شئت» .

            فرجع أبو نائلة من عنده على ميعاد . فأتى أصحابه فأخبرهم ، فأجمعوا أمرهم على أن يأتوه إذا أمسى لميعاده . وداع رسول الله للسرية ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشاء فأخبروه فمشى [معهم] .

            وروى ابن إسحاق و الإمام أحمد بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشى معهم إلى بقيع الفرقد ، ثم وجههم وقال : «انطلقوا على اسم الله ، اللهم أعنهم» وعند ابن سعد : «امضوا على بركة الله وعونه» .

            ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته في ليلة مقمرة مثل النهار ، ليلة أربع عشرة من شهر ربيع الأول .

            فمضوا حتى انتهوا إلى حصن ابن الأشرف . وفي الصحيح : فقال محمد بن مسلمة - وفي كتب المغازي أبو نائلة - لأصحابه : «إذا ما رآكم كعب فإني قائل بشعره فأسمه فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه» .

            فهتف أبو نائلة ، وكان ابن الأشرف حديث عهد بعرس ، فوثب في ملحفة ، فأخذت امرأته بناحيتها وقالت : «إنك امرؤ محارب وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة» .

            فقال : «إنه ميعاد علي وإنما هو أخي أبو نائلة لو وجدني نائما لما أيقظني» . فقالت : «والله إني لأعرف في صوته الشر» . فكلمهم من فوق البيت . وفي رواية : «أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم» .

            قال : فقال لها كعب : «إن الكريم لو دعي إلى طعنة ليلا لأجاب» . ثم نزل إليهم متوشحا بملحفة وهو ينفح منه ريح الطيب . فجاءهم ثم جلس فتحدث معهم ساعة حتى انبسط إليهم .

            فقالوا : «هل لك يا ابن الأشرف أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث فيه بقية ليلتنا هذه ؟ » فقال : «إن شئتم» . فخرجوا يتماشون؛ فمشوا ساعة . فقال أبو نائلة : «نجد منك ريح الطيب» .

            قال : «نعم؛ تحتي فلانة من أعطر نساء العرب» . قال : أفتأذن لي أن أشم [رأسك] ؟ » قال : نعم .

            فأدخل أبو نائلة يده في رأس كعب ثم شم يده ، فقال : «ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قط» .

            وإنما كان كعب يدهن بالمسك الفتيت بالماء والعنبر حتى يتلبد في صدغيه ، وكان جعدا جميلا . ثم مشى أبو نائلة ساعة ثم عاد لمثلها [حتى اطمأن إليه وسلسلت يده في شعره] فأخذ بقرون رأسه وقال لأصحابه : «اضربوا عدو الله» . فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا ورد بعضها بعضا . ولصق بأبي نائلة . قال محمد بن مسلمة : «فذكرت مغولا كان في سيفي حين رأيت أسيافنا لا تغني شيئا ، فأخذته وقد صاح عدو الله عند أول ضربة صيحة لم يبق حولنا حصن من حصون يهود إلا أوقدت عليه نار» . قال : «فوضعته في ثنته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته فوقع عدو الله» .

            وعند ابن سعد : فطعنه أبو عبس في خاصرته وعلاه محمد بن مسلمة [بالسيف] وقد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ ، فجرح في رجله ، أصابه بعض أسياف القوم . فلما فرغوا حزوا رأس كعب ثم خرجوا يتسترون ، وهم يخافون من يهود الإرصاد ، حتى سلكوا على بني أمية بن زيد ، ثم على قريظة ، وإن نيرانهم في الحصون لعالية ، ثم على بعاث ، حتى إذا كانوا بحرة العريض تخلف الحارث فأبطأ عليهم فناداهم : «أقرئوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام» . فعطفوا عليه فاحتملوه حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما بلغوا بقيع الفرقد كبروا .

            وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة يصلي ، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرهم بالبقيع كبر ، وعرف أن قد قتلوه . ثم أتوه يعدون ، حتى وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا على باب المسجد .

            فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أفلحت الوجوه» . فقالوا : «ووجهك يا رسول الله» ورموا برأسه بين يديه . فحمد الله تعالى على قتله . ثم أتوا بصاحبهم الحارث ، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم على جرحه فلم يؤذه ، فرجعوا إلى منازلهم .


            وقال محمد بن إسحاق : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه فوثب عند ذلك محيصة بن مسعود الأوسي على ابن سنينة - رجل من تجار يهود كان يلابسهم ويبايعهم - فقتله ، وكان أخوه حويصة بن مسعود أسن منه ، ولم يسلم بعد ، فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول : أي عدو الله ، أقتلته ؟ أما والله لرب شحم في بطنك من ماله . قال محيصة : فقلت : والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك . قال : فوالله إن كان لأول إسلام حويصة . وقال آوالله لو أمرك محمد بقتلي لتقتلني ؟ ! قال : نعم . والله لو أمرني بضرب عنقك لضربتها . قال : فوالله إن دينا بلغ بك هذا لعجب فأسلم حويصة .

            قال ابن إسحاق : حدثني بهذا الحديث مولى لبني حارثة عن ابنة محيصة عن أبيها . وقال في ذلك محيصة :


            يلوم ابن أم لو أمرت بقتله لطبقت ذفراه بأبيض قاضب     حسام كلون الملح أخلص صقله
            متى ما أصوبه فليس بكاذب     وما سرني أني قتلتك طائعا
            وأن لنا ما بين بصرى ومأرب

            وحكى ابن هشام ، عن أبي عبيدة ، عن أبي عمرو المدني أن هذه القصة كانت بعد مقتل بني قريظة ، وأن المقتول كان كعب بن يهوذا فلما قتله محيصة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة قال له أخوه حويصة ما قال ، فرد عليه محيصة بما تقدم ، فأسلم حويصة يومئذ . فالله أعلم . وعند ابن سعد : فأصبحت اليهود مذعورين ، فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : قتل سيدنا غيلة ، فذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صنيعه ، وما كان يحض عليهم ويحرض في قتالهم ويؤذيهم .

            ثم دعاهم إلى أن يكتبوا بينه وبينهم صلحا [أحسبه] . فكان ذلك الكتاب مع علي رضي الله تعالى عنه بعد . تنبيهات

            الأول : قال العلماء ورحمهم الله تعالى «في حديث كعب بن الأشرف دليل على جواز قتل من سب سيدنا محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو انتقصه أو آذاه ، سواء أكان بعهد أم بغير عهد ، ولا يجوز أن يقال إن هذا كان غدرا ، وقد قال ذلك رجل كان في مجلس أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، فضرب عنقه . وإنما يكون الغدر بعد أمان ، وهذا نقض العهد ، وهجا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبه . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهده ألا يعين عليه أحدا ، فنقض كعب العهد ، ولم يؤمنه محمد بن مسلمة ولا رفقته بحال ، وإنما كلمه في أمر البيع والرهن إلى أن تمكن منه .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية