الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          المقصد الثالث من مقاصد القرآن

                          ( بيان أن الإسلام دين الفطرة السليمة ، والعقل والفكر ، والعلم والحكمة ، والبرهان والحجة ، والضمير والوجدان ، والحرية والاستقلال ) .

                          قد أتى على البشر حين من الدهر لا يعرفون من الدين إلا أنه تعاليم خارجة عن محيط العقل ، كلف البشر بها مقاومة فطرتهم ، وتعذيب أنفسهم ، ومكابرة عقولهم وبصائرهم ، خضوعا للرؤساء الذين يلقنونهم إياها ، فإن انقادوا لسيطرتهم عليهم بها كانوا من الفائزين ، وإن خالفوهم سرا أو جهرا كانوا من الهالكين .

                          حتى إذا بعث الله محمدا خاتم النبيين ، يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ، ويزكيهم مما كانوا فيه من الضلال المبين - بين لهم أن دين الله الإسلام هو دين الفطرة ، والعقل والفكر ، والعلم والحكمة ، والبرهان والحجة ، والضمير والوجدان ، والحرية والاستقلال ، وأن لا سيطرة على روح الإنسان وعقله وضميره لأحد من خلق الله ، وإنما رسل الله هداة مرشدون ، مبشرون ومنذرون ، كما تقدم بيانه في المقصد الذي قبل هذا ، ونبين هذه المزايا بالشواهد المختصرة من القرآن فنقول :

                          ( 1 ) الإسلام دين الفطرة :

                          قال الله تعالى : ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) ( 30 : 30 ) الحنيف صفة من الحنف ( بالتحريك ) وهو الميل عن العوج إلى الاستقامة . وعن الضلالة إلى الهدى ، وعن الباطل إلى الحق ، ويقابله الزيغ وهو الميل عن الحق إلى الباطل إلخ . وفطرة الله التي فطر الناس [ ص: 201 ] عليها هي الجبلة الإنسانية ، الجامعة بين الحياتين : الجسمانية الحيوانية ، والروحانية الملكية ، والاستعداد لمعرفة عالم الشهادة وعالم الغيب فيهما ، وما أودع فيها من غريزة الدين المطلق ، الذي هو الشعور الوجداني بسلطان غيبي فوق قوى الكون والسنن والأسباب التي قام بهما نظام كل شيء في العالم ، فرب هذا السلطان هو فاطر السماوات والأرض وما فيهما ، والمصدر الذاتي للنفع والضر المحركين لشعور التعبد الفطري ، وطلب العرفان الغيبي ، فالعبادة الفطرية هي التوجه الوجداني إلى هذا الرب الغيبي في كل ما يعجز الإنسان عنه من نفع يحتاج إليه ويعجز عنه بكسبه ، ودفع ضر يمسه أو يخافه ويرى أنه يعجز عن دفعه بحوله وقوته ، وفي كل ما تشعر فطرته باستعدادها لمعرفته والوصول إليه مما لا نهاية له .

                          وأعني بالإنسان جنسه ، فما يعجز عنه المرء بنفسه دون أبناء جنسه فإنه يعده من مقدوره ، ويعد مساعدة غيره له من جنس كسبه ، فطلبه للمساعدة من أمثاله ليس فيها معنى التعبد عند أحد من البشر - فتعظيم الفقير للغني بوسائل استجدائه ، وخضوع الضعيف للقوي لاستنجاده واستعدائه على أعدائه ، وخنوع السوقة للملك أو الأمير لخوفهم منه أو رجائه - لا يسمى شيء من ذلك عبادة في عرف أمة من الأمم ولا ملة من الملل ، وإنما روح العبادة الفطرية ومخها هو دعاء ذي السلطان العلوي والقدرة الغيبية ، التي هي فوق ما يعرفه الإنسان ويعقله في عالم الأسباب ، ولاسيما الدعاء عند العجز والشدائد . قال - صلى الله عليه وسلم - : ( ( الدعاء هو العبادة ) ) هكذا بصيغة الحصر ، أي هو الركن المعنوي الأعظم فيها لأنه روحها المفسر برواية ( ( الدعاء مخ العبادة ) ) وكل تعظيم وتقرب قولي أوعملي لصاحب هذه القدرة والسلطان فهو عبادة له - هذا أصل دين الفطرة الغريزي في البشر .

                          وعلى هذا الأصل يبنى الدين التعليمي التشريعي ، الذي هو وضع إلهي يوحيه الله إلى رسله ، لئلا يضل عباده بضعف اجتهادهم واختلافهم في العمل بمقتضى غريزة الدين كما وقع بالفعل ، ولا يقبله البشر بالإذعان والوازع النفسي ، إلا إذا كان الملقن لهم إياه مؤيدا في تبليغه وتعليمه من صاحب ذلك السلطان الغيبي الأعلى ، والتصرف الذاتي المطلق في جميع العالم ، الذي تخضع له الأسباب والسنن فيه وهو لا يخضع لها ، وهو الله رب العالمين وقد شرحنا هذه الحقيقة مرارا ، وبينا في مواضع من التفسير والمنار معنى كون الإسلام دين الفطرة ، وأنه شرع لتكميل استعداد البشر للرقي في العلم والحكمة ، ومعرفة الله عز وجل المعدة إياهم لسعادة الآخرة ، فليس فيه شيء يصادمها .

                          [ ص: 202 ] فهذا الدين التعليمي حاجة من حاج الفطرة البشرية لا يتم كمالها النوعي بدونه ، فهو لنوع الإنسان كالعقل لأفراده كما حققه شيخنا الأستاذ الإمام .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية