الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            حدثنا أبو إسحاق أن البراء بن عازب قال : جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة يوم أحد - وكانوا خمسين رجلا - عبد الله بن جبير . قال : ووضعهم موضعا . وقال : إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا ، حتى أرسل إليكم ، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم ، فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم . قال : فهزموهم . قال : فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل ، وقد بدت أسوقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن . فقال : أصحاب عبد الله بن جبير : الغنيمة ، أي قوم ، الغنيمة ، ظهر أصحابكم فما تنظرون ؟ قال : عبد الله بن جبير : أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة . فلما أتوهم صرفت وجوههم ، فأقبلوا منهزمين ، فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم ، فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلا ، فأصابوا منا سبعين رجلا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة ; سبعين أسيرا وسبعين قتيلا فما كانت دولة أسرع من دولة المشركين . وصرخ الشيطان عند جبل عينين وقد تصور في صورة جعال بن سراقة رضي الله عنه : «إن محمدا قد قتل » ثلاث صرخات ، ولم يشك فيه أنه حق وكان جعال إلى جنب أبي بردة يقاتل أشد القتال ، فقال جماعة من المسلمين لما سمعوا ذلك : إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل أفلا تقاتلون على دينكم ، وعلى ما كان عليه نبيكم ، حتى تلقوا الله تعالى شهداء ؟ ! وقال جماعة : ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي لنا أمانا من أبي سفيان ، يا قوم إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم ، قبل أن يأتوكم فيقتلوكم ، واختلط المسلمون ، فصاروا يقتلون على غير شعار ، ويضرب بعضهم ، بعضا ، من العجلة والدهش وما يدري .

            وتفرق المسلمون في كل وجه ، وانهزمت طائفة منهم حتى دخلت المدينة ، فلقيتهم أم أيمن فجعلت تحثو في وجوههم التراب وتقول لبعضهم : «هاك المغزل فاغزل به ، وهلم سيفك » .

            ولما انكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا نفر يسير لم يبق للمسلمين لواء قائم ولا فئة ، وإن كانت خيل المشركين لتجوسهم مقبلة مدبرة في الوادي ، يلتقون ولا يفترقون ، ما يرون أحدا من الناس يردهم ، حتى رجعوا إلى معسكرهم ، وأصعد بعض المسلمين في الجبل ، واستشهد منهم من أكرمه الله تعالى بالشهادة ، ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صرخ به الشيطان قال : هذا إزب العقبة . شعر حسان بن ثابت حول هزيمة المشركين في أحد قال ابن إسحاق : وحدثني بعض أهل العلم : أن اللواء لم يزل صريعا حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية ، فرفعته لقريش ، فلاثوا به . وكان اللواء مع صؤاب ، غلام لبني أبي طلحة ، حبشي وكان آخر من أخذه منهم ، فقاتل به حتى قطعت يداه ، ثم برك عليه ، فأخذ اللواء بصدره وعنقه حتى قتل عليه ، وهو يقول : اللهم هل أعزرت - يقول : أعذرت -

            فقال حسان بن ثابت في ذلك :


            فخرتم باللواء وشر فخر لواء حين رد إلى صؤاب     جعلتم فخركم فيه بعبد
            وألأم من يطا عفر التراب     ظننتم ، والسفيه له ظنون
            وما إن ذاك من أمر الصواب     بأن جلادنا يوم التقينا
            بمكة بيعكم حمر العياب     أقر العين أن عصبت يداه
            وما إن تعصبان على خضاب



            قال ابن هشام : آخرها بيتا يروى لأبي خراش الهذلي ، وأنشدنيه له خلف الأحمر :


            أقر العين أن عصبت يداها     وما إن تعصبان على خضاب



            في أبيات له ، يعني امرأته ، في غير حديث أحد . وتروى الأبيات أيضا لمعقل بن خويلد الهذلي . [ شعر حسان في عمرة الحارثية ]

            قال ابن إسحاق : وقال حسان بن ثابت في شأن عمرة بنت علقمة الحارثية ورفعها اللواء :


            إذا عضل سيقت إلينا كأنها     جداية شرك معلمات الحواجب
            أقمنا لهم طعنا مبيرا منكلا     وحزناهم بالضرب من كل جانب
            فلولا لواء الحارثية أصبحوا     يباعون في الأسواق بيع الجلائب



            قال ابن هشام : وهذه الأبيات في أبيات له . فائدة قال ابن القيم في ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد

            وقد أشار الله - سبحانه وتعالى - إلى أمهاتها ، وأصولها في سورة (آل عمران ) حيث افتتح القصة بقوله : ( وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ) [ آل عمران : 121 ] ، إلى تمام ستين آية .

            فمنها : تعريفهم سوء عاقبة المعصية والفشل والتنازع ، وأن الذي أصابهم إنما هو بشؤم ذلك ، كما قال تعالى : ( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم ) ، [ آل عمران : 152 ] .

            فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم للرسول ، وتنازعهم ، وفشلهم ، كانوا بعد ذلك أشد حذرا ويقظة ، وتحرزا من أسباب الخذلان .

            ومنها : أن حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم جرت بأن يدالوا مرة ويدال عليهم أخرى ، لكن تكون لهم العاقبة ، فإنهم لو انتصروا دائما دخل معهم المؤمنون وغيرهم ، ولم يتميز الصادق من غيره ، ولو انتصر عليهم دائما لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة ، فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين ليتميز من يتبعهم ويطيعهم للحق ، وما جاءوا به ممن يتبعهم على الظهور والغلبة خاصة . فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق ، فأطلع المنافقون رءوسهم في هذه الغزوة ، وتكلموا بما كانوا يكتمونه ، وظهرت مخبآتهم ، وعاد تلويحهم تصريحا ، وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق انقساما ظاهرا ، وعرف المؤمنون أن لهم عدوا في نفس دورهم ، وهم معهم لا يفارقونهم ، فاستعدوا لهم ، وتحرزوا منهم . قال الله تعالى : ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ) [ آل عمران : 179 ] .

            أي ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين حتى يميز أهل الإيمان من أهل النفاق كما مي?هم بالمحنة يوم أحد ( وما كان الله ليطلعكم على الغيب ) الذي يميز به بين هؤلاء وهؤلاء ، فإنهم متميزون في غيبه وعلمه وهو سبحانه يريد أن يميزهم تمييزا مشهودا فيقع معلومه الذي هو غيب شهادة . وقوله : ( ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ) استدراك لما نفاه من اطلاع خلقه على الغيب سوى الرسل ، فإنه يطلعهم على ما يشاء من غيبه كما قال : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ) [ الجن : 27 ]. ثم أنكر -الله سبحانه- عليهم -المؤمنين- حسبانهم وظنهم أن يدخلوا الجنة بدون الجهاد في سبيله والصبر على أذى أعدائه ، وإن هذا ممتنع بحيث ينكر على من ظنه وحسبه .

            فقال : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) [ آل عمران : 142 ] ، أي ولما يقع ذلك منكم فيعلمه ، فإنه لو وقع لعلمه فجازاكم عليه بالجنة ، فيكون الجزاء على الواقع المعلوم ، لا على مجرد العلم ، فإن الله لا يجزي العبد على مجرد علمه فيه دون أن يقع معلومه ، ثم وبخهم على هزيمتهم من أمر كانوا يتمنونه ويودون لقاءه .

            فقال : ( ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ) [ آل عمران : 143 ] .

            قال ابن عباس : ولما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيه بما فعل بشهداء بدر من الكرامة رغبوا في الشهادة ، فتمنوا قتالا يستشهدون فيه ، فيلحقون إخوانهم ، فأراهم الله ذلك يوم أحد وسببه لهم ، فلم يلبثوا أن انهزموا إلا من شاء الله منهم ، فأنزل الله تعالى : ( ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ) . فائدة أخرى قال ابن القيم رحمه الله تعالى: أن وقعة أحد كانت مقدمة وإرهاصا بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فثبتهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قتل ، بل الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده ويموتوا عليه أو يقتلوا ، فإنهم إنما يعبدون رب محمد ، وهو حي لا يموت ، فلو مات محمد أو قتل لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه ، وما جاء به ، فكل نفس ذائقة الموت ، وما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ليخلد لا هو ولا هم ، بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد ، فإن الموت لا بد منه سواء مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بقي ، ولهذا وبخهم على رجوع من رجع منهم عن دينه ، لما صرخ الشيطان إن محمدا قد قتل ، فقال : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) [ آل عمران : 144 ] ، والشاكرون هم الذين عرفوا قدر النعمة ، فثبتوا عليها حتى ماتوا أو قتلوا ، فظهر أثر هذا العتاب ، وحكم هذا الخطاب يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وارتد من ارتد على عقبيه ، وثبت الشاكرون على دينهم ، فنصرهم الله وأعزهم ، وظفرهم بأعدائهم ، وجعل العاقبة لهم . فائدة فيما أصاب الصحابة من الغم المتتابع قال ابن القيم: ثم ذكرهم -الله- بحالهم -الصحابة- وقت الفرار مصعدين أي جادين في الهرب والذهاب في الأرض ، أو صاعدين في الجبل لا يلوون على أحد من نبيهم ولا أصحابهم ، والرسول يدعوهم في أخراهم إلى عباد الله أنا رسول الله .

            فأثابهم بهذا الهرب والفرار غما بعد غم : غم الهزيمة والكسرة ، وغم صرخة الشيطان فيهم بأن محمدا قد قتل .

            وقيل : جازاكم غما بما غممتم رسوله بفراركم عنه وأسلمتموه إلى عدوه ، فالغم الذي حصل لكم جزاء على الغم الذي أوقعتموه بنبيه ، والقول الأول أظهر لوجوه :

            أحدها : أن قوله : ( لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم ) تنبيه على حكمة هذا الغم بعد الغم ، وهو أن ينسيهم الحزن على ما فاتهم من الظفر وعلى ما أصابهم من الهزيمة والجراح ، فنسوا بذلك السبب ، وهذا إنما يحصل بالغم الذي يعقبه غم آخر .

            الثاني : أنه مطابق للواقع ، فإنه حصل لهم غم فوات الغنيمة ، ثم أعقبه غم الهزيمة ، ثم غم الجراح التي أصابتهم ، ثم غم القتل ، ثم غم سماعهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ، ثم غم ظهور أعدائهم على الجبل فوقهم ، وليس المراد غمين اثنين خاصة ، بل غما متتابعا لتمام الابتلاء والامتحان .

            الثالث : أن قوله : " بغم " من تمام الثواب ، لا أنه سبب جزاء الثواب ، والمعنى : أثابكم غما متصلا بغم جزاء على ما وقع منهم من الهروب ، وإسلامهم نبيهم صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وترك استجابتهم له ، وهو يدعوهم ، ومخالفتهم له في لزوم مركزهم ، وتنازعهم في الأمر وفشلهم ، وكل واحد من هذه الأمور يوجب غما يخصه ، فترادفت عليهم الغموم ، كما ترادفت منهم أسبابها وموجباتها ، ولولا أن تداركهم بعفوه لكان أمرا آخر .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية