الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
حكايات وأخبار في صلاة الخاشعين رضي الله عنهم .

اعلم أن الخشوع ثمرة الإيمان ونتيجة اليقين الحاصل بجلال الله عز وجل ومن رزق ذلك فإنه يكون خاشعا في الصلاة وفي غير الصلاة بل في خلوته وفي بيت الماء عند الحاجة فإن موجب الخشوع معرفة اطلاع الله تعالى على العبد ومعرفة جلاله ومعرفة تقصير العبد فمن هذه المعارف يتولد الخشوع ، وليست مختصة بالصلاة ولذلك روي عن بعضهم أنه لم يرفع رأسه إلى السماء أربعين سنة حياء من الله سبحانه ، وخشوعا له وكان الربيع بن خثيم من شدة غضه لبصره وإطراقه يظن بعض الناس أنه أعمى وكان يختلف إلى منزل ابن مسعود عشرين سنة فإذا رأته جاريته قالت لابن مسعود صديقك الأعمى قد جاء ، فكان يضحك ابن مسعود من قولها وكان إذا دق الباب تخرج الجارية إليه فتراه مطرقا غاضا بصره وكان ابن مسعود إذا نظر إليه يقول : وبشر المخبتين أما والله لو رآك محمد صلى الله عليه وسلم لفرح بك ، وفي لفظ آخر لأحبك وفي لفظ آخر لضحك ومشى ذات يوم مع ابن مسعود في الحدادين فلما نظر إلى الأكوار تنفخ وإلى النار تلتهب صعق ، وسقط مغشيا عليه وقعد ابن مسعود عند رأسه إلى وقت الصلاة ، فلم يفق فحمله على ظهره إلى منزله ، فلم يزل مغشيا عليه إلى مثل الساعة التي صعق فيها ففاتته خمس صلوات وابن مسعود عند رأسه يقول : هذا والله هو الخوف .

وكان الربيع يقول : ما دخلت في صلاة قط فأهمني فيها إلا ما أقول وما يقال لي وكان عامر بن عبد الله من خاشعي المصلين .

التالي السابق


(حكايات وأخبار في صلاة الخاشعين )

(اعلم أن الخشوع ) معنى يقوم بالنفس ينشأ من استحضار اطلاع الله تعالى على العباد ، فيظهر عنه سكون في الأطراف يلائم مقصود العبادة ، وبهذا الاعتبار هو (ثمرة الإيمان) الكامل ، وخلاصته (و) باعتبار أنه ينشأ عن خوف ، ورجاء هو (نتيجة اليقين الحاصل بجلال الله تعالى) ، أي : بمشاهدته ، فإذا لمعت طوالع تجليه تحقق الخشوع (ومن رزق ذلك فإنه يكون خاشعا في الصلاة) متذللا لا يتجاوز بصره عن موضع سجوده غير ملتفت يمنة ، ويسرة (و) بالنظر إلى سكون الأطراف ، وغض البصر يكون خاشعا (في غير الصلاة) أيضا

[ ص: 167 ] (بل) يكون خاشعا (في خلواته) بالنظر إلى الخوف ، والحياء من الله تعالى (وفي بيت الماء) ، أي : الخلاء (عند قضاء الحاجة) ، وفي كل ذلك آداب معروفة ، فالخاشع في غير الصلاة أن يخشع في جلوسه مع أصحابه ، وقيامه ، ومشيه ، وركوبه ، وحديثه ، وأكله ، وشربه ، وسائر معاملاته ، وفي خلواته عند التعري ، والجماع ، وعشرة الأهل ، وفي بيت الماء عند قعوده ، وقيامه عنه (فإن موجب الخشوع ) هو (معرفة اطلاع الله تعالى على العبد) ، ومراقبته له في كل أحواله ، بحيث لا تخفى عليه خافية (ومعرفة تقصير العبد) في سائر أفعاله (فمن هذه المعارف يتولد الخشوع ، وليست) بهذا المعنى (مختصة بالصلاة) ليس إلا ، بل عام في سائر الأحوال ، والأطوار ، والتقلبات (ولذلك روي عن بعضهم أنه لم يرفع رأسه إلى السماء أربعين سنة حياء من الله ، وخشوعا له) روي ذلك في مناقب الإمام أبي حنيفة ، وورد علي رجل من الصالحين يقال له : أحمد بن محمد بن عثمان اليعقوبي ، فسمع من الحديث ، وتردد إلي كثيرا ، فما رأيته رفع رأسه إلى فوق قط ، أخبرني من يصحبه أنه هكذا شأنه منذ نشأ ، لم يرفع رأسه مطلقا ، سواء في خلوته ، أو جلوته ، وتوجه إلى الحجاز فتوفي راجعا - رحمه الله تعالى - (وكان الربيع بن خثيم) - مصغرا - ابن عائذ بن عبد الله بن موهبة بن منقذ الثوري أبو يزيد الكوفي ، قال ابن معين : لا يسأل عن مثله ، وقال الشعبي : كان من معادن الصدق ، وقال غيره : كان إذا دخل على ابن مسعود لم يكن عليه إذن لأحد حتى يفرغ كل واحد من صاحبه ، وروي أنه لما احتضر بكت عليه ابنته ، فقال : يا بنية ما تبكين قولي يا بشراي أبي لقي الخير . قال ابن سعد : توفي في ولاية عبيد الله بن زياد . روى عن ابن مسعود ، وأبي أيوب ، وعنه الشعبي ، وإبراهيم . قال الذهبي : كان ورعا قانتا مخبتا باكيا .

روى له الجماعة سوى أبي داود (من شدة غضه لبصره و) دوام (إطراقه) إلى الأرض ببصره (يظن به بعض الناس أنه أعمى و) يقال : إنه (كان يختلف إلى منزل) عبد الله (بن مسعود عشرين سنة) لأخذ العلم لا تحسبه جارية ابن مسعود إلا أعمى لدوام إطراقه إلى الأرض ببصره (فإذا رأته جاريته قالت لابن مسعود صديقك الأعمى قد جاء ، فكان يضحك ابن مسعود من قولها) ، ويقول لها : ويلك! هو الربيع بن خثيم (وكان إذا دق الباب) ، أي : باب ابن مسعود (تخرج الجارية إليه فتراه مطرقا) بنظره إلى الأرض (غاضا بصره) ؛ ولذا كانت تسميه الأعمى (وكان ابن مسعود إذا نظر إليه يقول : وبشر المخبتين) قال صاحب القوت : الخاشعون من المؤمنين هم الآمرون بالمعروف ، والناهون عن المنكر ، والحافظون لحدود الله ، جزاؤهم البشرى ، كما قال الله تعالى : وبشر المخبتين ، والخاشعون أيضا هم الخائفون الذاكرون الصابرون المقيمون الصلاة ، فإذا كملت هذه الأوصاف فيهم كانوا مخبتين ، وقد قال الله تعالى : وبشر المخبتين ، وكان ابن مسعود إذا رأى الربيع بن خثيم قال : (أما والله لو رآك محمد - صلى الله عليه وسلم - لفرح بك ، وفي لفظ آخر لأجلك) ، هكذا أورده في القوت .

وفي كتاب الشهاب الإسكاري : لو رآك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأحبك ، وما رأيتك إلا ذكرت المخبتين (ومشى ذات يوم مع ابن مسعود ) في سوق (الحدادين) بالكوفة (فلما نظر إلى الأكوار) جمع كور ، وهو المبني من الطين الذي يوقد فيه ، ويقال : هو الزق أيضا (تنفخ) معرب (وإلى النيران) جمع نار (تلتهب) ، أي : تشتعل (صعق ، وسقط مغشيا عليه) .

وفي القوت : خر بدل سقط (وقعد ابن مسعود عند رأسه إلى) أن حان (وقت الصلاة ، فلم يفق) من غشيته (فحمله) ابن مسعود (على ظهره إلى) أن أتى به إلى (منزله ، فلم يزل مغشيا عليه إلى مثل الساعة التي صعق فيها ففاته خمس صلوات) كاملة (وابن مسعود عند رأسه يقول : هذا والله هو الخوف) ، هكذا أورده صاحب القوت (وكان الربيع ) هذا (يقول : ما دخلت في صلاة قط فأهمني فيها) .

وفي القوت : فهمني فيها (إلا ما أقول) ، أي : من تلاوة ، وتسبيح (وما يقال لي) ، أي : في المخاطبة ، والمناجاة ، والإجابة ، كذا أورده صاحب القوت ، والعوارف (وكان عامر بن عبد الله) بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي أبو الحرث المدني أخو ثابت ، وحمزة ، وخبيب ، وعباد ، وعمر ، وموسى ، وأمه حنتمة بنت عبد الرحمن بن الحرث بن هشام المخزومي (من خاشعي المصلين) ، ومن العباد الفاضلين . قال أحمد : ثقة من

[ ص: 168 ] أوثق الناس ، زاد أبو حاتم صالح ، وقال مالك : كان يغتسل كل يوم طلعت فيه الشمس ، ويواصل سبع عشرة ، ثم يمسي فلا يذوق شيئا حتى القابلة يومين وليلة . قال الواقدي : مات قبل هشام أو بعده بقليل . قال : ومات هشام سنة أربع وعشرين . روى له الجماعة .




الخدمات العلمية