الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 215 ] المقصد الخامس من مقاصد القرآن

                          ( تقرير مزايا الإسلام العامة في التكاليف الشخصية من العبادات والمحظورات )

                          ( ونلخص أهمها بالإجمال في عشر جمل )

                          ( 1 ) كونه وسطا جامعا لحقوق الروح والجسد ومصالح الدنيا والآخرة . قال تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) ( 2 : 143 ) الآية . وقد بينا في تفسيرها أن المسلمين وسط بين الذين تغلب عليهم الحظوظ الجسدية والمنافع المادية كاليهود ، والذين تغلب عليهم التعاليم الروحية ، وتعذيب الجسد وإذلال النفس والزهد كالهندوس والنصارى ، وإن خالف هذه التعاليم أكثرهم .

                          ( 2 ) كون غايته الوصول إلى سعادة الدنيا والآخرة بتزكية النفس بالإيمان الصحيح ، ومعرفة الله والعمل الصالح ، ومكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، لا بمجرد الاعتقاد والاتكال ، ولا بالشفاعات وخوارق العادات ، وتقدم بيانه .

                          ( 3 ) كون الغرض منه التعارف والتأليف بين البشر ، لا زيادة التفريق والاختلاف ، وتقدمت شواهده في كونه عاما مكملا ومتمما لدين الله على ألسنة رسله في الكلام على آية القرآن وعموم بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - وفي الكلام على الرسل من المقصد الثاني .

                          وإنما تفصيل أصوله في تلك الوحدات الثمان التي بيناها في المقصد الرابع .

                          ( 4 ) كونه يسرا لا حرج فيه ولا عسر ولا إرهاق ولا إعنات ، قال الله عز وجل : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) ( 2 : 286 ) وقال بلغت حكمته : ( ولو شاء الله لأعنتكم ) ( 2 : 220 ) وقال عظمت رأفته : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) ( 2 : 185 ) وقال جلت منته : ( وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ) ( 22 : 78 ) وقال عمت رحمته : ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ) ( 5 : 6 ) .

                          ومن فروع هذا الأصل ، أن الواجب الذي يشق على المكلف أداؤه ويحرجه يسقط عنه إلى بدل أو مطلقا ، كالمريض الذي يرجى برؤه ، والذي لا يرجى برؤه ومثله الشيخ الهرم - الأول يسقط عنه الصيام ويقضيه كالمسافر ، والثاني لا يقضي بل يكفر بإطعام مسكين إذا قدر . وأما المحرم فيباح للضرورة بنص القرآن ، وإن كان تحريمه أو النهي عنه لسد ذريعة الفساد فيباح للحاجة ، كما بيناه في تفسير آيات الربا وآيات الصيام ، وآية محرمات الطعام .

                          وقد بينا مسألة يسر الإسلام العام بالتفصيل في تفسير : ( ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) ( 5 : 101 ) [ ص: 216 ] من الجزء السابع وجمع في رسالة خاصة .

                          ( 5 ) منع الغلو في الدين وإبطال جعله تعذيبا للنفس ، بإباحة الطيبات والزينة بدون إسراف ولا كبرياء ، وقد فصلنا ذلك في تفسير الآيات الواردة في الأمر بالأكل من الطيبات في سورة البقرة وسورة المائدة وفي تفسير : ( يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ) ( 7 : 31 و 32 ) وقال تعالى : ( ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ) وهو في ( 4 : 171 ) و ( 5 : 77 ) وفي هذا النهي اعتبار للمسلمين ؛ لأنهم أولى بالانتهاء عن الغلو بأن دينهم دين الرحمة واليسر . والأحاديث الصحيحة في نهي المسلمين عن الغلو في العبادة وعن ترك الطيبات وعن الرهبانية والخصاء مبينة لهذه الآيات ، وهي مصداق تسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - له بالحنيفية السمحة .

                          ( 6 ) قلة تكاليفه وسهولة فهمها ، وقد كان الأعرابي يجيء النبي - صلى الله عليه وسلم - من البادية فيسلم ، فيعلمه ما أوجب الله وما حرم عليه في مجلس واحد ، فيعاهده على العمل به فيقول : ( ( أفلح الأعرابي إن صدق ) ) وكان هذا أعظم أسباب قبول الناس له . ولكن الفقهاء أكثروا التكاليف بآرائهم الاجتهادية حتى صار العلم بها متعسرا ، والعمل بها متعذرا .

                          ( 7 ) انقسام التكليف إلى عزائم ورخص ، وكان ابن عباس يرجح جانب الرخص ، وابن عمر يرجح العزائم . والناس درجات في التقصير والتشمير والاعتدال ، فيوافق البدوي الساذج والفيلسوف الحكيم وما بينهما من الطبقات ، قال الله تعالى : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير ) ( 35 : 32 ) .

                          ( 8 ) نصوص الكتاب وهدي السنة مراعى فيهما درجات البشر في العقل والفهم وعلو الهمة وضعفها ، فالقطعي منها هو العام ، وغير القطعي تتفاوت فيه الأفهام ، فيأخذ كل أحد منه بما أداه إليه اجتهاده ، ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يقر كل أحد من أصحابه فيه على اجتهاده ، كما فعل عندما نزلت آية البقرة في الخمر والميسر الدالة على تحريمهما دلالة ظنية فتركهما بعضهم دون بعض ، وأقر كلا على اجتهاده إلى أن نزلت آيتا المائدة بالتحريم القطعي . قال تعالى : ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) ( 29 : 43 ) .

                          وبيان ذلك أن الفرائض الدينية العامة فيه والمحرمات الدينية العامة لا يثبتان إلا بنص قطعي يفهمه كل أحد ، والأول مذهب الحنفية وأما الثاني وهو التحريم فهو مذهب جمهور السلف [ ص: 217 ] أيضا ، وأما الآيات الظنية الدلالة ، والأحاديث الأحادية الظنية الرواية أو الدلالة ، فهي موكولة إلى اجتهاد من يثبت عنده في العبادات والأعمال الشخصية ، وإلى اجتهاد أولي الأمر في الأحكام القضائية والمسائل السياسية ، وقد بينا هذا في مواضع من التفسير والمنار .

                          ( 9 ) معاملة الناس بظواهرهم وجعل البواطن موكولة إلى الله تعالى ، فليس لأحد من الحكام ولا الرؤساء الرسميين ولا لخليفة المسلمين أن يعاقب أحدا ولا أن يحاسبه على ما يعتقد أو يضمر في قلبه ، وإنما العقوبات على المخالفات العملية للأحكام العامة المتعلقة بحقوق الناس ومصالحهم وقد فصلنا هذا في خلاصة تفسير سورة : براءة ( ( التوبة ) ) .

                          ( 10 ) مدار العبادات كلها على اتباع ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - في الظاهر ، فليس لأحد فيها رأي شخصي ولا رياسة ، ومدارها في الباطن على الإخلاص لله تعالى وصحة النية ، والآيات والأحاديث في الأمرين كثيرة .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية