الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            وروى محمد بن عمر عن عبد الله بن عاصم الأشجعي ، عن أبيه ، وأبو نعيم عن عروة وابن شهاب : أن نعيم بن مسعود كان صديقا لبني قريظة ، فلما سارت الأحزاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سار مع قومه وهو على دينهم ، فأقامت الأحزاب ما أقامت ، حتى أجدب الجناب ، وهلك الخف والكراع ، فقذف الله تعالى في قلبه الإسلام وكتم قومه إسلامه ،

            فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بين المغرب والعشاء ، فوجده يصلي ، فلما رآه جلس ، ثم قال : «ما جاء بك يا نعيم ؟ » قال : جئت أصدقك ، وأشهد أن ما جئت به حق ، فأسلم ، وأخبره أن قريشا تحزبوا عليه ، وأنهم بعثوا إلى قريظة : أنه قد طال ثواؤنا وأجدب ما حولنا ، وقد جئنا لنقاتل محمدا وأصحابه ، فنستريح منه ، فأرسلت إليهم قريظة : نعم ما رأيتم فإذا شئتم ، فابعثوا بالرهن ، ثم لا يحبسكم إلا أنفسكم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لنعيم : «فإنهم قد أرسلوا إلي يدعونني إلى الصلح ، وأرد بني النضير إلى ديارهم وأموالهم» ، فقال نعيم : يا رسول الله فمرني بما شئت ، والله لا تأمرني بأمر إلا مضيت له ، قال : وقومي لا يعلمون بإسلامي ولا غيرهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا الناس ما استطعت ، فإن الحرب خدعة» . قال : أفعل ، ولكن يا رسول الله إني أقول فأذن لي فأقول ، قال : «قل ما بدا لك ، فأنت في حل» .

            قال : فذهبت حتى جئت بني قريظة فلما رأوني رحبوا بي وأكرموني ، وعرضوا علي الطعام والشراب ، فقلت : إني لم آت لطعام وشراب ، إنما جئتكم نصبا بأمركم وتخوفا عليكم ، لأشير عليكم برأي ، وقال : قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم ، فقالوا : قد عرفنا ولست عندنا بمتهم ، وأنت عندنا على ما نحب من الصدق والبر ، قال : فاكتموا عني . قالوا :

            نفعل . قال : إن أمر هذا الرجل بلاء- يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- صنع ما رأيتم ببني قينقاع وبني النضير ، وأجلاهم عن بلادهم بعد قبض الأموال ، وإن ابن أبي الحقيق قد سار فينا ، فاجتمعنا معه لننصركم ، وأرى الأمر قد تطاول كما ترون ، وإنكم والله ما أنتم وقريش وغطفان من محمد بمنزلة واحدة ، أما قريش وغطفان فإنهم قوم جاءوا سيارة حتى نزلوا حيث رأيتم ، فإن وجدوا فرصة انتهزوها ، وإن كانت الحرب فأصابهم ما يكرهون انشمروا إلى بلادهم ، وأنتم لا تقدرون على ذلك ، البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، وقد كبر عليهم جانب محمد ، أجلبوا عليه بالأمس إلى الليل ، فقتل رأسهم عمرو بن عبد ود ، وهربوا منه مجروحين ، لا غنى بهم عنكم ، لما يعرفون عندكم ، فلا تقاتلوا مع قريش ولا غطفان حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم ، تستوثقون به منهم ألا يبرحوا حتى يناجزوا محمدا . قالوا : أشرت علينا بالرأي والنصح ، ودعوا له وشكروه ، وقالوا : نحن فاعلون . قال : ولكن اكتموا علي ، قالوا : نفعل .

            ثم أتى نعيم أبا سفيان بن حرب في رجال من قريش . فقال : أبا سفيان جئتك بنصيحة ، فاكتم علي . قال : أجل . قال : تعلم أن بني قريظة قد ندموا على ما فعلوا فيما بينهم وبين محمد ، فأرادوا إصلاحه ومراجعته ، أرسلوا إليه وأنا عندهم ، إنا سنأخذ من قريش وغطفان من أشرافهم سبعين رجلا ، نسلمهم إليك تضرب أعناقهم ، وترد جناحنا الذي كسرت إلى ديارهم- يعنون بني النضير - ونكون معك على قريش حتى نردهم عنك . فإن بعثوا إليكم يسألونكم رهنا فلا تدفعوا إليهم شيئا ، واحذروهم على أشرافكم ، ولكن اكتموا علي ، ولا تذكروا من هذا حرفا ، قالوا : لا نذكره .

            ثم أتى إلى غطفان . فقال : يا معشر غطفان ، قد عرفتم أني رجل منكم فاكتموا علي ، واعلموا أن بني قريظة بعثوا إلى محمد- وقال لهم مثل ما قال لأبي سفيان- فاحذروا أن تدفعوا إليهم أحدا من رجالكم . فصدقوه .

            وأرسلت يهود عزال- وهو بعين مهملة فزاي مشددة- ابن سموأل إلى قريش : إن ثواءكم قد طال ، ولم تصنعوا شيئا ، فليس الذي تصنعون برأي ، إنكم لو وعدتمونا يوما تزحفون فيه إلى محمد ، فتأتون من وجه ، وتأتي غطفان من وجه ، ونخرج نحن من وجه آخر ، لم يفلت محمد من بعضنا ، ولكن لا نخرج معكم حتى ترسلوا إلينا برهان من أشرافكم ، ليكونوا عندنا ، فإننا نخاف إن مستكم الحرب أو أصابكم ما تكرهون أن تشمروا إلى بلادكم ، وتتركونا في عقر دارنا ، وقد نابذنا محمدا بالعداوة . فلما جاء الرسول لم يرجع إليه أبو سفيان بشيء ، وقال- بعد أن ذهب- : هذا ما قال نعيم .

            وخرج نعيم إلى بني قريظة ، فقال : يا معشر بني قريظة بينا أنا عند أبي سفيان إذ جاء رسولكم إليهم يطلب منه الرهان ، فلم يرد عليه شيئا ، فلما ولى قال : لو طلبوا مني عناقا ما رهنتها ، أنا أرهنهم سراة أصحابي يدفعونهم إلى محمد يقتلهم ، فارتأوا رأيكم ، ولا تقاتلوا مع أبي سفيان وأصحابه حتى تأخذوا الرهن ، فإنكم إن لم تقاتلوا محمدا ، وانصرف أبو سفيان ، تكونوا على مواعدتكم الأولى . قالوا : نرجو ذلك يا نعيم . وقال كعب بن أسد : أنا والله لا أقاتله ، لقد كنت لهذا كارها ، ولكن حييا رجل مشؤوم . قال الزبير بن باطا : إن انكشفت قريش وغطفان عن محمد لم يقبل منا إلا السيف ، لنخرجن إلى محمد ولا تطلبوا رهنا من قريش ، فإنها لا تعطينا رهنا أبدا ، وعلى أي وجه تعطينا قريش الرهن وعددهم أكثر من عددنا ، ومعهم الكراع ولا كراع معنا ؟ وهم يقدرون على الهرب ، ونحن لا نقدر عليه ، وهذه غطفان تطلب إلى محمد أن يعطيها بعض ثمار المدينة فأبى أن يعطيهم إلا السيف ، فهم ينصرفون من غير شيء . فلم يوافق الزبير غيره من قومه على مساعدة قريش إلا برهن .

            فلما كان ليلة السبت أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل ونفرا من قريش وغطفان ، فقالوا لهم : إنا لسنا بدار مقام ، قد هلك الخف والحافر ، فأعدوا للقتال حتى نناجز محمدا ، ونفرغ مما بيننا وبينه ، فأرسلوا إليهم : إن اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا ، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم ، وإنا لسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم ، يكونون بأيدينا ، ثقة لنا ، حتى نناجز محمدا ، فإنا نخشى أن ضربتكم الحرب ، واشتد عليكم القتال ، أن تشمروا إلى بلادكم وتتركونا ، والرجل في بلادنا ، فلا طاقة لنا بذلك منه .

            فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة ، قالت قريش وغطفان : إن الذي ذكر نعيم لحق فأرسلوا إلى بني قريظة : إنا والله ما ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا ، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا .

            فقالت بنو قريظة لما سمعوا ذلك : إن الذي ذكر لكم نعيم لحق ، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا ، فإن رأوا فرصة انتهزوها ، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم ، وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم .

            وتكررت رسل قريش وغطفان إلى بني قريظة ، وهم يردون عليهم بما تقدم ، فيئس هؤلاء من نصر هؤلاء ، فاختلف أمرهم ، وخذل الله تعالى بينهم على يد نعيم بن مسعود رضي الله عنه .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية