الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة " فأدرك بعضهم العصر في الطريق ، فقال بعضهم : لا نصلي العصر حتى نأتيها . وقال بعضهم : بل نصلي ، لم يرد منا ذلك . فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم وقال عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، أن عمه عبيد الله أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من طلب الأحزاب ، وضع عنه اللأمة واغتسل واستجمر ، فتبدى له جبريل عليه السلام ، فقال : عذيرك من محارب ، ألا أراك قد وضعت اللأمة وما وضعناها بعد . قال : فوثب النبي صلى الله عليه وسلم فزعا ، فعزم على الناس أن لا يصلوا صلاة العصر حتى يأتوا بني قريظة . قال : فلبس الناس السلاح ، فلم يأتوا بني قريظة حتى غربت الشمس ، فاختصم الناس عند غروب الشمس ، فقال بعضهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم علينا أن لا نصلي حتى نأتي بني قريظة ، فإنما نحن في عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فليس علينا إثم . وصلى طائفة من الناس احتسابا ، وتركت طائفة منهم الصلاة حتى غربت الشمس ، فصلوها حين جاءوا بني قريظة احتسابا ، فلم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا من الفريقين . اختلاف العلماء في المصيب من الصحابة في صلاة العصر يوم قريظة وقد اختلف العلماء في المصيب من الصحابة يومئذ ، من هو ؟ بل الإجماع على أن كلا من الفريقين مأجور ومعذور ، غير معنف ؛ فقالت طائفة من العلماء : الذين أخروا الصلاة يومئذ عن وقتها المقدر لها ، حتى صلوها في بني قريظة هم المصيبون ؛ لأن أمرهم يومئذ بتأخير الصلاة خاص ، فيقدم على عموم الأمر بها في وقتها المقدر لها شرعا . قال أبو محمد بن حزم الظاهري في كتابه " السيرة " : وعلم الله أنا لو كنا هناك ، لم نصل العصر إلا في بني قريظة ، ولو بعد أيام . وهذا القول منه ماش على قاعدته الأصلية في الأخذ بالظاهر . وقالت طائفة أخرى من العلماء : بل الذين صلوا الصلاة في وقتها لما أدركتهم وهم في مسيرهم ، هم المصيبون ؛ لأنهم فهموا أن المراد إنما هو تعجيل السير إلى بني قريظة ، لا تأخير الصلاة ، فعملوا بمقتضى الأدلة الدالة على أفضلية الصلاة في أول وقتها ، مع فهمهم عن الشارع ما أراد ، ولهذا لم يعنفهم ، ولم يأمرهم بإعادة الصلاة في وقتها التي حولت إليه يومئذ ، كما يدعيه أولئك ، وأما أولئك الذين أخروا ، فعذروا بحسب ما فهموا وأكثر ما كانوا يؤمرون بالقضاء ، وقد فعلوه . وأما على قول من يجوز تأخير الصلاة لعذر القتال فإن قيل : كان تأخير الصلاة للجهاد حينئذ جائزا مشروعا ، ولهذا كان عقب تأخير النبي صلى الله عليه وسلم العصر يوم الخندق إلى الليل ، فتأخيرهم صلاة العصر إلى الليل ، كتأخيره صلى الله عليه وسلم لها يوم الخندق إلى الليل سواء ، ولا سيما أن ذلك كان قبل شروع صلاة الخوف .

            قيل : هذا سؤال قوي ، وجوابه من وجهين .

            أحدهما : أن يقال : لم يثبت أن تأخير الصلاة عن وقتها كان جائزا بعد بيان المواقيت ، ولا دليل على ذلك إلا قصة الخندق ، فإنها هي التي استدل بها من قال ذلك ، ولا حجة فيها لأنه ليس فيها بيان أن التأخير من النبي صلى الله عليه وسلم كان عن عمد ، بل لعله كان نسيانا ، وفي القصة ما يشعر بذلك ، فإن عمر لما قال له : ( يا رسول الله! ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والله ما صليتها ) ثم قام فصلاها .

            وهذا مشعر بأنه صلى الله عليه وسلم كان ناسيا بما هو فيه من الشغل ، والاهتمام بأمر العدو المحيط به ، وعلى هذا يكون قد أخرها بعذر النسيان ، كما أخرها بعذر النوم في سفره ، وصلاها بعد استيقاظه ، وبعد ذكره لتتأسى أمته به .

            والجواب الثاني : أن هذا على تقدير ثبوته إنما هو في حال الخوف والمسايفة عند الدهش عن تعقل أفعال الصلاة ، والإتيان بها ، والصحابة في مسيرهم إلى بني قريظة ، لم يكونوا كذلك ، بل كان حكمهم حكم أسفارهم إلى العدو قبل ذلك وبعده ، ومعلوم أنهم لم يكونوا يؤخرون الصلاة عن وقتها ، ولم تكن قريظة ممن يخاف فوتهم ، فإنهم كانوا مقيمين بدارهم ، فهذا منتهى أقدام الفريقين في هذا الموضع .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية