الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 296 ] التفريع . إذا قلنا بالصحيح أن الحق واحد فعليه فروع : ( منها ) : أنه هل يقطع بصحة قوله وخطأ المخالف ، أم يجوز أن يكون في غيره ؟ وجهان : " أصحهما " ، وبه قال القاضي أبو الطيب ، اعلم إصابتنا للحق واقطع بخطأ من خالفنا ومنعه من الحكم باجتهاده ، غير أني لا أؤثمه . قال أبو الخطاب من الحنابلة : وقد أومأ إليه أحمد في رواية ابن الحكم ، والأصح أن المسائل تنقسم إلى ما يقطع فيه بالإصابة ، وإلى ما لا يدري أصاب الحق أم أخطأ ، بحسب الأدلة . وهذا هو الذي يقتضيه تصرف أصحابنا في نقض حكم الحاكم .

                                                      و ( منها ) : أن المخطئ هل يقال : إنه معذور ؟ فيه وجهان : ( أحدهما ) - ونقله ابن كج عن عامة الأصحاب - : نعم و ( الثاني ) وهو الذي أورده ابن فورك : لا . و ( منها ) اتفق القائلون على أن لله في كل واقعة حكما معينا هو مقصد الطالب . ثم اختلفوا هل نصب عليه دليلا أم لا ؟ فقيل : لا دليل عليه ، وإنما هو مثل دفين يعثر [ عليه ] ، فمن عثر عليه فله أجران ، ومن أخطأه فله أجر واحد . والأكثرون على أن الله نصب عليه دليلا . ثم اختلفوا هل هذا الدليل قطعي أو ظني ، فحكى القاضي عن ابن أبي هريرة أنه كان يقول في آخر عمره : أنه قطعي ، وهو قول الأصم وابن علية والمريسي وجميع نفاة القياس ، إلحاقا للفروع بالأصول . ومنهم من يعبر عن هذا الخلاف بأنه : هل دل عليه السمع أو العقل . ثم اختلف هؤلاء في مخطئ هذا الدليل القاطع هل هو مأثوم محطوط [ ص: 297 ] عنه ؟ فحكي عن ابن أبي هريرة أنه كان يقول بأخرة : إن مخطئه مأثوم ، والحكم بخلافه منقوض ، وهو قول الأصم ومن وافقه ، لأنه خالف دليلا قطعيا . وقيل : بل الإثم محطوط عنه .

                                                      وحكاه السرخسي عن المريسي والأصم وابن علية . وذهب عامة أصحابنا إلى أنه ظني ، وأن الإثم موضوع عن مخطئه وأن المجتهد كلف طلبه . قال الرافعي : وهو المذهب ، والحديث يدل عليه ، وهل كلف إصابته ؟ فيه قولان - أو وجهان - : ( أحدهما ) : نعم ، وهو قول أبي إسحاق الإسفراييني ويحكى عن المزني ، وهو الصحيح عند أصحابنا ، ونسبه ابن القطان إلى الشافعي ، فعلى هذا إن أصابه المجتهد كان مصيبا عند الله ، وإن أخطأه كان الإثم مرفوعا عنه ، وله أجر بقصده الحق . و ( الثاني ) : وبه قال ابن سريج ، ونسب إلى الشافعي أن الله لم يكلف المجتهد إصابته ، وإنما كلفه الاجتهاد في طلبه ، فكل من اجتهد في طلبه فهو مصيب في اجتهاده ، ولأنه قد أدى ما كلف . وإذا قلنا بأن كل مجتهد مصيب ، فاختلف القائلون به ، هل الحق في كل واحد من المجتهدين ما غلب على ظنه أو نقول : الحق واحد وهو أشبه مطلوب إلا أن كل واحد منهم مكلف بما يغلب على ظنه ، لإصابة الأشبه . قال الرافعي رحمه الله : فيه وجهان : اختيار الغزالي منهما الأول . وبالثاني أجاب أصحابنا العراقيون ، وحكوه عن القاضي أبي حامد والداركي . انتهى . والمعنى أنه هل يرجع إليه في كل مسألة حكما مطلوبا هو أشبه بحكم الأصل في غالب ظن المجتهد ، فلهذا قيل : هناك أشبه . ثم اختلفوا في تفسيره ، فقيل : هو ما غلب على ظن المجتهد . وقيل : هو قوة الشبه لقوة الأمارة . وقال ابن سريج : هو ما لو ورد به نص لطابقه . قال في " المنخول " : وهذا حكم على الغيب . وقيل : ليس هناك أشبه ، [ ص: 298 ] والجميع واحد إلا ما عند المجتهد أنه الأولى أن يحكم به ، وحكاه القاضي في " التقريب " عن الجمهور ، وحكاه عن الأشعري . وقال ابن القطان : القائلون بأن الحق في كل ما أدى إليه الاجتهاد اختلفوا : هل نصب الله تعالى أدلة مختلفة يؤدي اجتهاد كل واحد منهم إلى دليل منصوب أم لا ؟ على قولين : ( أحدهما ) نعم ، كالتخيير في كفارة اليمين أيها فعل أجزأه ، فكذا أي الأدلة صار إليه وأخذ به كان حقا . و ( الثاني ) أنه لم ينصب عليها دلالة ، وإنما الأمر فيها على غالب الظن ، لأنه المتعبد به . .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية