الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1691 - مسألة : وبيع المكاتب ، والمكاتبة ما لم يؤديا شيئا من كتابتهما جائز متى شاء السيد ، وكذلك وطء المكاتبة جائز ما لم تؤد شيئا من كتابتها ، فإن حملت أو لم تحمل فهي على مكاتبتها ، فإذا بيع بطلت الكتابة فإن عاد إلى ملكه فلا كتابة لهما إلا بعقد محدد - إن طلبه العبد أو الأمة - فإن أديا شيئا من الكتابة - قل أو كثر - حرم وطؤها جملة ، وجاز بيع ما قابل منهما ما لم يؤديا . فإن باع ذلك الجزء بطلت الكتابة فيه خاصة وصح العتق فيما قابل منهما ما أديا ، فإن عاد الجزء المبيع إلى ملك البائع يوما ما لم تعد فيه الكتابة ولا الرجوع في الكتابة أصلا ، بغير الخروج من الملك .

                                                                                                                                                                                          وكذلك إن مات السيد فإن ما قابل مما أديا حر وما بقي رقيق للورثة قد بطلت فيه الكتابة ، فإن كانا لم يكونا أديا شيئا بعد فقد بطلت الكتابة كلها ، وهما رقيق للورثة . وكذلك إن مات المكاتب أو المكاتبة ولم يكونا أديا شيئا ، فقد ماتا مملوكين ، ومالهما كله للسيد ، فإن كانا قد أديا من الكتابة فما قابل منهما ما أديا فهو حر ، ويكون ما قابل ذلك الجزء مما تركا ميراثا للأحرار من ورثتهما ، ويكون ما قابل ما لم يؤديا مما تركا للسيد ، وقد بطل باقي الكتابة ، وما حملت به المكاتبة قبل الكتابة أو بعدها ، إلى أن يتم له مائة وعشرون ليلة مذ حملت به ، فحكمه حكمها حتى يتم له العدد المذكور ، فما عتق منها بالأداء عتق منه . فإذا نفخ فيه الروح فقد استقر أمره ولا يزيد قيمة العتق فيه بعد بأدائها .

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك ما ذكرناه في المسألة التي قبل هذه من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المكاتب يعتق منه بقدر ما أدى ، ويرق بقدر ما لم يؤد فهذا يوجب كل ما ذكرنا ، وإذ هو عبد ما لم يؤد ، فبيع المرء عبده ووطؤه أمته حلال له ، وما علمنا في دين الله تعالى مملوكا ممنوعا من بيعه .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 235 ] ومنع الحنفيون ، والمالكيون من البيع والوطء ، وما نعلم لهم في ذلك حجة أصلا ، لا من قرآن ، ولا سنة ، ولا قياس ، ولا معقول ، بل قولهم خلاف ذلك كله ، لا سيما احتجاجهم لقولهم الفاسد بما لم يصح من أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ، فإذ هو عبد ، فما المانع من بيعه ، وإذ هي أمة فما المانع من وطئها ، والله تعالى يقول { : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } فلا تخلو من أن تكون مما ملكت يمينه فوطؤها له حلال ، أو مما لا تملك يمينه ، فهي إما حرة وإما أمة لغيره ، لا يعقل في دين الله تعالى وفي طبيعة العقول إلا هذا . ولو أنهم اعترضوا بهذا على أنفسهم مكان اعتراضهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تزوجه أم المؤمنين صفية ، وجعل عتقها صداقها ، فقالوا : لا يخلو من أن يكون تزوجها وهي مملوكة له ، فلا يجوز ذلك ، أو يكون تزوجها وهي حرة فهذا نكاح بلا صداق ، لكان أسلم لهم من الإثم في الأخرى ، ومن السخرية بهذا القول السخيف في الأولى .

                                                                                                                                                                                          وجوابهم : أنه عليه الصلاة والسلام ما تزوجها إلا وهي حرة بصداق صحيح ، قد حصلت عليه وآتاها إياه ، كما أمره ربه عز وجل ، وهو عتقها التام قبل الزواج إن تزوجته . ولا يخلو المكاتب ضرورة من أحد أقسام أربعة لا خامس لها : إما أن يكون حرا من حين العقد كما ذكر عن بعض الصحابة رضي الله عنهم - وهم لا يقولون بهذا - أو يكون عبدا كما يقولون أو يكون عبدا ما لم يؤد فإذا أدى شرع فيه العتق فكان بعضه حرا وبعضه مملوكا - كما نقول نحن - أو يكون لا حرا ولا عبدا ، ولا بعضه حر ، ولا بعضه عبد ، وهذا محال لا يعقل .

                                                                                                                                                                                          فإذ هو عندهم عبد فبيع العبد ووطء الأمة حلال ما لم يمنع من ذلك نص ، ولا نص هاهنا مانعا من ذلك أصلا ، بل قد جاء النص الصحيح ، والإجماع المتيقن على جواز بيع المكاتب الذي لم يؤد شيئا .

                                                                                                                                                                                          كما روينا من طريق البخاري نا قتيبة نا الليث هو ابن سعد - عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير { أن عائشة أم المؤمنين أخبرته أن بريرة جاءت تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئا فقالت لها عائشة : ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت فذكرت ذلك بريرة لأهلها فأبوا وقالوا : إن [ ص: 236 ] شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون ولاؤك لنا فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابتاعي فأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق قالت : ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما بال الناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى من اشترط شرطا ليس في كتاب الله تعالى فليس له وإن اشترط مائة مرة . شرط الله أحق وأوثق } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مسلم نا أبو كريب محمد بن العلاء نا أبو أسامة نا هشام بن عروة - يعني عن أبيه - أخبرتني عائشة أم المؤمنين قالت : { دخلت علي بريرة فقالت : إن أهلي كاتبوني على تسع أواق في تسع سنين في كل سنة أوقية فأعينيني ؟ فقالت لها : إن شاء أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة وأعتقك ويكون ولاؤك لي فعلت ؟ فذكرت ذلك لأهلها فقالوا : لا إلا أن يكون الولاء لهم ؟ قالت : فأتتني فذكرت ذلك فانتهرتها فقلت : لاها الله إذا ، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فسألني فأخبرته ، فقال : اشتريها فأعتقيها واشترطي لهم الولاء فإن الولاء لمن أعتق ؟ ففعلت ، ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق } وذكر باقي الحديث .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن أم المؤمنين عائشة نحوه . ومن طريق البخاري نا أبو نعيم - هو الفضل بن دكين - نا عبد الواحد بن أيمن حدثني { أبي أيمن قال : دخلت على عائشة أم المؤمنين فقلت لها : كنت لعتبة بن أبي لهب ومات وورثه بنوه وإنهم باعوني من ابن أبي عمرو المخزومي فأعتقني واشترط بنو عتبة الولاء ؟ فقالت عائشة : دخلت علي بريرة وهي مكاتبة فقالت : اشتريني فاعتقيني ؟ فقلت : نعم ، فقالت : لا يبيعونني حتى يشترطوا ولائي ، فقلت : لا حاجة لي بذلك ، فسمع بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أو بلغه فقال لعائشة : اشتريها وأعتقيها } فذكرت الخبر . ومن طريق أبي داود نا موسى بن إسماعيل نا حماد - هو ابن سلمة - عن خالد - هو الحذاء - عن عكرمة عن ابن عباس { أن مغيثا كان عبدا فقال : يا رسول الله [ ص: 237 ] اشفع إليها ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا بريرة اتقي الله فإنه زوجك وأبو ولدك ، قالت : يا رسول الله تأمرني بذلك ؟ قال : لا ، إنما أنا شافع ، فكانت دموعه تسيل على خده ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس : ألا تعجب من حب مغيث بريرة وبغضها إياه ؟ } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم نا خالد عن عكرمة { عن ابن عباس قال : لما خيرت بريرة رأيت زوجها يتبعها في سكك المدينة ودموعه تسيل على لحيته ، فكلم له العباس النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب إليها ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : زوجك وأبو ولدك فقالت : أتأمرني به يا رسول الله ؟ قال : إنما أنا شافع ، فقالت فإن كنت شافعا فلا حاجة لي فيه ، واختارت نفسها ، وكان يقال له : المغيث ، وكان عبدا لآل المغيرة من بني مخزوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس : ألا تعجب من شدة بغض بريرة لزوجها ومن شدة حب زوجها لها ؟ }

                                                                                                                                                                                          فهذا خبر ظاهر فاش ، رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أم المؤمنين ، وبريرة ، وابن عباس . ورواه عن ابن عباس عكرمة ، وعن بريرة عروة ، وعن أم المؤمنين القاسم بن محمد ، وعروة بن الزبير ، وعمرة ، وأيمن . ورواه عن أيمن ابنه عبد الواحد ، وعن عمرة : يحيى بن سعيد الأنصاري وعن القاسم : ابنه عبد الرحمن ، وعن عروة : الزهري ، وهشام ابنه ، ويزيد بن رومان . ورواه عن هؤلاء الناس ، والأئمة الذين يكثر عددهم ، فصار نقل كافة وتواتر لا تسع مخالفته - وهذا بيع المكاتب قبل أن يؤدي شيئا .

                                                                                                                                                                                          ولا شك عند كل ذي حس سليم أنه لم يبق بالمدينة من لم يعرف ذلك ; لأنها صفقة جرت بين أم المؤمنين وطائفة من الصحابة وهم موالي بريرة . ثم خطب الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر بيعها خطبة في غير وقت الخطبة ولا يكون شيء أشهر من هذا . ثم كان من مشي زوجها يبكي خلفها في أزقة المدينة ما زاد الأمر شهرة عند [ ص: 238 ] الصبيان والنساء والضعفاء ، فلاح يقينا أنه إجماع من جميع الصحابة ، إذ لا يجوز ألبتة أن يظن بصاحب خلاف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أكد فيه هذا التأكيد .

                                                                                                                                                                                          وهذا هو الإجماع المتيقن لا إعطاء صاع من حنطة صدقة في بني الحارث بن الخزرج على نحو ميل من المدينة ، ولا جلد عمر أربعين جلدة زائدة على سبيل التعزير في الخمر قد صح عنه خلافها ، وعن غيره من الصحابة قبله وبعده . ولا سبيل لهم إلى أن يوجدونا عن أحد من الصحابة المنع من بيع المكاتب قبل أن يؤدي إلا تلك القولة الخاملة التي لا نعلم لها سندا عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فبلحوا عند هذه ، فقالت منهم عصبة : إنما بيعت كتابتها . فقلنا : كذبتم كذبا مفتعلا للوقت ، وفي الخبر تكذيبكم بأن أم المؤمنين اشترتها وأعتقتها ، وكان الولاء لها . وقال بعضهم : إنها عجزت ؟ فقلنا : كذبتم كذبا مفتعلا من وقته ، وفي الخبر : أن هذه القصة كانت بالمدينة ، والعباس ، وابنه عبد الله بها ، وأن الكتابة كانت لتسع سنين في كل سنة أوقية ، وأنها لم تكن بعد أدت شيئا .

                                                                                                                                                                                          ولا خلاف بين أحد من أهل العلم والرواية في أن العباس ، وعبد الله لم يدخلا المدينة ولا سكناها ، إلا بعد فتح مكة ، ولم يعش النبي صلى الله عليه وسلم مذ دخل المدينة بعد الفتح إلا عامين وأربعة أشهر ، فأين عجزها وأين حلول نجومها ؟ تبارك الله ما أسهل الكذب على هؤلاء القوم في الدين . نعوذ بالله من البلاء ؟

                                                                                                                                                                                          وروينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قلت لعطاء : غلام كاتبته فبعته رقبة أو كاتبته فعجز ؟ قال عطاء : هو عبد للذي ابتاعه . وقاله أيضا : عمرو بن دينار ، قلت لعطاء : فقضى كتابته فعتق ؟ قال عطاء : هو مولى للذي ابتاعه ؟ قلت لعطاء : كيف والكتابة عتق ؟ قال عطاء : كلا ، ليست عتقا ، إنما يقال في المكاتب يورث فلا يبيعه الذي ورثه إلا بإذن عصبة الذي كاتبه . وقاله أيضا : عمرو بن دينار ، قال ابن جريج : قلت لعطاء : أذن لي في بيعه إخوتي [ ص: 239 ] بنو أبي ولم يأذن بنو جدي ؟ قال عطاء : حسبك أن يأذن لك وارثه من عصبته يومئذ ، قال عطاء : وأما مكاتب أنت كاتبته فبعته رقبة والذي عليه : فلا تستأذن فيه أحدا ، فإن عجز فهو للذي ابتاعه ، وإن عتق فهو مولى الذي ابتاعه . فهذا عطاء ، وعمرو بن دينار : يجيزان بيع رقبة المكاتب بلا عجز ، ولم يخالفهما ابن جريج . والعجب كله من إجازة بعضهم بيع كتابة المكاتب - وهو حرام - لأنه بيع غرر ، ومنعوا من بيع رقبته قبل أن يؤدي - وهو حلال طلق - . ثم قالوا : إن أدى فعتق فولاؤه لبائع كتابته ، وإن عجز فهو رقيق للمشتري كتابته - وهذا تخليط لا نظير له لأنه بيع ، لا بيع وتمليك للرقبة لمن لم يشترها - وكل ذلك باطل .

                                                                                                                                                                                          واحتج بعضهم في منع بيعه بقول الله تعالى { : أوفوا بالعقود } . قال أبو محمد : وهذا عليهم لا لهم ; لأنهم يرون تعجيزه إن عجز ، وإبطال كتابته ، ونسوا قول الله تعالى { : أوفوا بالعقود } . فقالوا : المسلمون عند شروطهم ؟ فقلنا : فأجيزوا شرطه على المكاتبة وطئها ، كما فعل سعيد بن المسيب وغيره ، فقالوا : هذا شرط ليس في كتاب الله تعالى ؟ فقلنا : والتعجيز شرط ليس في كتاب الله تعالى ولا فرق . ثم لم يختلفوا فيمن عقد على نفسه لله عز وجل عتق غلامه هذا - إن أفاق أبوه أو قدم غائبه - فإن له بيعه ما لم يقدم الغائب ، وما لم يفق الأب فهلا منعوا من هذا ب { أوفوا بالعقود } . فإن قالوا : قد لا يستحق العتق بموت الأب المريض ، والغائب ؟ قلنا : وقد لا يستحق المكاتب العتق عندكم بالعجز ولا فرق ، فكيف وليس قوله تعالى : { أوفوا بالعقود } مانعا من البيع ، وإنما هو مانع من أن يبطل عقده قاصدا إليه بالإبطال ، فقط .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية