الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وإن تطيب ناسيا فلا شيء عليه وإن تطيب عامدا فعليه الفدية والفرق في المتطيب بين الجاهل والعالم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الأعرابي وقد أحرم وعليه خلوق بنزع الجبة وغسل الصفرة ولم يأمره في الخبر بفدية ( قال المزني ) في هذا دليل أن ليس عليه فدية إذا لم يكن في الخبر وهكذا روي في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصائم يقع على امرأته قال النبي صلى الله عليه وسلم " أعتق وافعل " ولم يذكر أن عليه القضاء وأجمعوا أن عليه القضاء " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهو كما قال إذا فعل المحرم ما نهي عنه ، فهو على ثلاثة أضرب :

                                                                                                                                            أحدها : ما استوى حكم عامده وناسيه في وجوب الفدية فيه .

                                                                                                                                            والثاني : ما اختلف حكم عامده وناسيه .

                                                                                                                                            والثالث : ما اختلف قول الشافعي فيه .

                                                                                                                                            فأما الضرب الأول الذي يستوي حكم العامد فيه والناسي ، فهو ما كان إتلافا كحلق الشعر ، وتقليم الأظفار ، وقتل الصيد .

                                                                                                                                            وأما الضرب الثاني الذي يختلف فيه حكم العامد والناسي : فهو ما كان استمتاعا سوى الوطء ، كالطيب ، واللباس ، وتغطية الرأس . فإن كان عامدا ، فعليه الفدية ، وإن كان ناسيا فلا فدية عليه ، وكذا لو كان ذاكرا للإحرام ، جاهلا بالتحريم ، فلا فدية عليه .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة ، ومالك ، والمزني : الناسي كالعامد ، والجاهل بالتحريم كالعالم ، في وجوب الفدية عليه ، استدلالا بأنه استمتاع تجب الفدية بعمده فوجب أن تجب بسهوه كالوطء ولأنه معنى يمنع من الإحرام : فوجب أن يستوي حكم عمده وسهوه ، كالحلق ، [ ص: 106 ] والتقليم : ولأن النسيان عذر ، والعذر إنما يبيح الفعل ولا يسقط الفدية ، كالمعذور في الطيب ، واللباس ، إذا اضطر إليه .

                                                                                                                                            والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه قوله صلى الله عليه وسلم : " عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " . وروى عطاء عن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه قال : " رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا بالجعرانة ، وعليه جبة متضمخا بالخلوق ، وهو تصفر لحيته ورأسه ، فقال يا رسول الله : إني أحرمت بعمرة ، وأنا كما ترى فقال : اغسل الصفرة ، وانزع عنك الجبة ، وما كنت صانعا في حجك ، فاصنع في عمرتك . فلما أمره بنزع الجبة ، وغسل الصفرة ، وسكت عن الفدية ، دل على أن سكوته عنها ، سكوت إسقاط لا سكوت اكتفاء : لأنه بين له حكم فعل هو به جاهل .

                                                                                                                                            فإن قيل : إنما كان هذا قبل تحريم الطيب ، واللباس : لأن الأعرابي حين سأله عن ذلك وقف ينتظر القضاء ، حتى نزل عليه الوحي ، فدعاه وقال له : اغسل الصفرة ، وانزع الجبة .

                                                                                                                                            وقيل : هذا التأويل غير صحيح : لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بنزع الجبة وغسل الصفرة ، وفعل ذلك غير واجب قبل نزول التحريم ، على أن إنكاره ذلك من نفسه ، واختيار النبي صلى الله عليه وسلم ، وسؤاله عن حكمه ، وما روي من إسرار الصحابة به ، دليل على تقديم تحرمه .

                                                                                                                                            فإن قيل : وهو سؤال المزني : ليس سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن الفدية دليلا على أنها غير واجبة ، كما لم يكن سكوته عن إيجاب القضاء على الواطئ في شهر رمضان ، دليلا على أن القضاء غير واجب .

                                                                                                                                            قيل : لو تركنا سكوت النبي صلى الله عليه وسلم على إيجاب القضاء على الواطئ دل على أن القضاء غير واجب كالفدية ها هنا ، ولكن ثبت بالدليل إيجاب القضاء عليه ، من قوله تعالى : فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر [ البقرة : 184 ] على أنه قد روي في بعض الأخبار أنه قال للواطئ : " واقض يوما مكانه . ولأنها عبادة تجب في إفسادها الكفارة ، فوجب أن يفرق فيها بين عمد الاستمتاع ، وسهوه ، كالأكل ، والوطء في رمضان ، فأما قياسهم على الواطئ في الحج ناسيا قلنا : فيه قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : لا شيء عليه ، فعلى هذا يسقط سؤالهم .

                                                                                                                                            والثاني : عليه الفدية فعلى هذا المعنى فيه أنه يجري مجرى الإتلاف : لأن وطء المجنون كوطء العاقل في لزوم المهر ، والطيب استمتاع محض .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الحلق والتقليم ، فالمعنى فيه : أنه إتلاف . وحكم الإتلاف أغلظ من حكم الاستمتاع ، فاستوى حكم ، عمده وسهوه : لغلظ حكمه ، وفرق بين عمد الاستمتاع وسهوه : لحقة حكمه .

                                                                                                                                            [ ص: 107 ] وأما قولهم : إن الناسي معذور ، والعذر لا يسقط الفدية كالمضطر .

                                                                                                                                            قيل : هذا غلط : لأن الشرع قد فرق بين عذر الناسي وعذر المضطر . ألا ترى أن الآكل في الصوم ناسيا ، معذور ولا قضاء عليه ، الآكل في الصوم مضطرا في الصوم معذور وعليه القضاء .

                                                                                                                                            وأما الضرب الذي اختلف قول الشافعي فيه ، فهو الوطء ، وسيأتي إن شاء الله .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية