الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            غزوة الحديبية

            وقعت غزوة الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة النبوية بلا خلاف، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام في المدينة شهري رمضان وشوال، وخرج صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة بمن معه من المهاجرين والأنصار وأزواجه، ومن لحق به من العرب معتمرا لا يريد حربا، واستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي، وساق معه سبعين من الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه وليعلموا أنه إنما خرج زائرا ومعظما للبيت الحرام.

            خرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعسفان جاءه الخبر أن قريشا قد خرجت وجمعوا لك الأحابيش - حلف من عدة قبائل -، وهم صادوك عن البيت فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك " يا ويح قريش ! لقد أكلتهم الحرب! ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب; فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فما تظن قريش ؟ فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة

            وعند ذلك أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقا آخر غير معهود وبينما هو في ثنية المرار بركت ناقته صلى الله عليه وسلم فقال الناس خلأت الناقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما خلأت، وما هو لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة ، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم ، إلا أعطيتهم إياها

            ونزل الصحابة بالوادي وليس فيه ماء فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة سهما فأمره أن يضعه في بئر فجاش الماء وفاض، وعلمت قريش بمكانه صلى الله عليه وسلم أرسلت إليه رسولا تلو الآخر حتى جاء إليه عروة بن مسعود الثقفي مفاوضا وقد رأى من تعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم حبا وكرامة وطاعة ما لم يره عند كسرى وقيصر وقد أخبر قريشا بما رآه.

            ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم خراش بن أمية الخزاعي ليبلغ قريشا أنه ما جاء لقتال إلا أنه لم يستطع الوصول ثم أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه واحتبسته قريش عندها فشاع الخبر واستفاض أن عثمان قد قتل فعزم النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك أن يناجز القوم.

            بيعة الرضوان

            دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيعة على الموت أو على عدم الفرار فبايع كل من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يتخلف أحد إلا الجد بن قيس، وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم عن عثمان فضرب إحدى يديه بالأخرى، ثم تبين عدم صحة مقتل عثمان، وأرسلت قريش سهيل بن عمرو لعقد الصلح بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى الصلح راجع عمر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أنا عبد الله ورسوله ، لن أخالف أمره ولن يضيعني" وراجع كذلك أبا بكر فرد عليه أن الزم غرز النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اصطلحا على وضع الحرب عشر سنين، وأنه من أتى من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، وأن من أتى قريشا ممن مع النبي صلى الله عليه وسلم لا ترده قريش وأن من أحب أن يدخل في عقد النبي صلى الله عليه وسلم دخل، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش دخل، وأن يرجع النبي صلى الله عليه وسلم عامه هذا على أن يأتيها العام القابل بغير سلاح سوى السيوف في القرب.

            أبو جندل بن سهيل بن عمرو

            وبينما كتاب الصلح يكتب إذ دخل أبو جندل بن سهيل يرسف في قيوده فرده النبي صلى الله عليه وسلم إنفاذا لبنود الصلح قائلا له صلى الله عليه وسلم: " فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا"

            وجاء بعد ذلك أبو بصير فرده النبي صلى الله عليه وسلم، فبر بعهد النبي صلى الله عليه وسلم للقوم ثم دافع عن نفسه فقتل أحد الرجلين اللذين جاءا لأخذه وفر الآخر راجعا إلى المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال"

            وخرج أبو بصير قاصدا سيف البحر فجعل كل من يفر من المشركين يأتي إليه حتى أصبح مصدر تهديد لقريش فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم: بأن يمسك من يأتي مسلما من قريش وألا حاجة لهم فيه، وأن يبعث إلى أبي بصير ومن كان معه فيحوزهم إليه صلى الله عليه وسلم.

            وفي هذه الغزوة نزل القرآن برضا الرحمن عن أهل الشجرة، والنهي عن إرجاع المسلمات المؤمنات إلى الكفار إذا علم أنهن هاجرن رغبة في الإسلام.

            هذا وقد شهد على كتاب صلح الحديبية جمع من الصحابة منهم أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم، وقام النبي صلى الله عليه وسلم فنحر هديه وجلس فحلق فقام الصحابة بين محلقين ومقصرين.

            وقد وقع العديد من الآيات النبوية في هذه الوقعة منها: دخول الكثير من الناس في دين الله تعالى حتى إنه كان لا يكلم أحدا ممن يعقل عن الإسلام إلا ودخل فيه.

            ومنها فوران الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم حتى كفى كل من خرج معه صلى الله عليه وسلم، وفيضان بئر الحديبية بوضع سهمه صلى الله عليه وسلم فيه.

            وفيها بشر النبي صلى الله عليه وسلم الذين بايعوا تحت الشجرة بألا تمسهم النار.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية