الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى ( ويستحب للإمام أن يجهر بالتكبير ليسمع من خلفه ، ويستحب لغيره أن يسر به وأدناه أن يسمع نفسه ) .

                                      [ ص: 259 ]

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) يستحب للإمام أن يجهر بتكبيرة الإحرام وبتكبيرات الانتقالات ليسمع المأمومين فيعلموا صحة صلاته . فإن كان المسجد كبيرا لا يبلغ صوته إلى جميع أهله أو كان ضعيف الصوت لمرض ونحوه أو من أصل خلقته بلغ عنه بعض المأمومين أو جماعة منهم على حسب الحاجة ، للحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم { صلى في مرضه بالناس وأبو بكر رضي الله عنه يسمعهم التكبير } رواه البخاري ومسلم من رواية عائشة وسأبسط هذه المسألة في أول فصل الركوع - إن شاء الله تعالى - وأما غير الإمام فالسنة الإسرار بالتكبير سواء المأموم والمنفرد ، وأدنى الإسرار أن يسمع [ نفسه ] إذا كان صحيح السمع ولا عارض عنده من لفظ وغيره . وهذا عام في القراءة والتكبير والتسبيح في الركوع وغيره ، والتشهد والسلام والدعاء ، سواء واجبها ونفلها لا يحسب شيء منها حتى يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع ولا عارض ، فإن لم يكن كذلك رفع بحيث يسمع لو كان كذلك لا يجزيه غير ذلك ، هكذا نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب . قال أصحابنا ويستحب أن لا يزيد على إسماع نفسه ، قال الشافعي في الأم : يسمع نفسه ومن يليه لا يتجاوزه .



                                      ( فرع ) في مسائل تتعلق بالتكبير ( إحداها ) يجب أن يكبر للإحرام قائما حيث يجب القيام وكذا المسبوق الذي يدرك الإمام راكعا يجب أن تقع تكبيرة الإحرام بجميع حروفها في حال قيامه ، فإن أتى بحرف منها في غير حال القيام لم تنعقد صلاته فرضا بلا خلاف ، وفي انعقادها نفلا الخلاف السابق قريبا في فصل النية ، هذا مذهبنا وهو رواية عن مالك والأشهر عنه أنه تنعقد [ ص: 257 ] صلاته فرضا إذا كبر وهو مسبوق ، وهو نصه في الموطأ والمدونة ، قال الشيخ أبو محمد في كتابه التبصرة : فلو شك هل وقعت تكبيرته كلها في القيام ؟ أم وقع حرف منها في غير القيام لم تنعقد صلاته نفلا ; لأن الأصل عدم التكبير إلا في القيام .

                                      ( واعلم ) أن جمهور الأصحاب أطلقوا أن تكبيرة الإحرام إذا وقع بعضها في غير حال القيام لم تنعقد صلاته ، وكذا قاله الشيخ أبو محمد في التبصرة ، ثم قال : إن وقع بعض تكبيرته في حال ركوعه لم تنعقد فرضا ، وإن وقع بعضها في انحنائه وتمت قبل بلوغه حد الراكعين انعقدت صلاته فرضا ; لأن ما قبل حد الركوع من جملة القيام ولا يضر الانحناء اليسير ، قال : والحد الفاصل بين حد الركوع وحد القيام أن تنال راحتاه ركبتيه لو مد يديه فهذا حد الركوع ، وما قبله حد القيام ، فإن كانت يداه أو إحداهما طويلة خارجة عن العادة اعتبر عادة مثله في الخلقة ، هذا كلام الشيخ أبي محمد وهو وجه ضعيف ، والأصح أنه متى انحنى بحيث يكون إلى حد الركوع أقرب لم يكن قائما ، ولا تصح تكبيرته ، وقد سبق بيان هذا في فصل القيام .



                                      ( الثانية ) ذكر الأزهري وغيره من أهل العربية في قوله : الله أكبر قولين لأهل العربية أحدهما معناه الله كبير قالوا : وقد جاء أفعل نعتا في حروف مشهورة كقولهم هذا أمر أهون أي هين ، قال الزجاج : هذا غير منكر ، والثاني : معناه الله أكبر كبير ، كقولك : هو أعز عزيز كقول الفرزدق :

                                      إن الذي رفع السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول

                                      أراد دعائمه أعز عزيز ، وأطول طويل ، وقيل قول ثالث : معناه الله أكبر من أن يشرك به ، أو يذكر بغير المدح والتمجيد والثناء الحسن ، قال صاحب التحرير في شرح صحيح مسلم : هذا أحسن الأقوال لما فيه من زيادة المعنى لا سيما على أصلنا فإنا لا نجوز الله كبير أو الكبير بدل الله أكبر ، وأما قولهم : الله أكبر كبيرا فنصب كبيرا على تقدير كبرت كبيرا .



                                      ( الثالثة ) قال صاحب التلخيص وتابعه القاضي أبو الطيب والبغوي والأصحاب ونقله البندنيجي وإمام الحرمين والغزالي في البسيط ومحمد بن يحيى عن الأصحاب كافة : لو كبر للإحرام أربع تكبيرات أو أكثر دخل في الصلاة بالأوتار وبطلت بالأشفاع ، وصورته أن ينوي بكل تكبيرة افتتاح الصلاة ، ولا ينوي الخروج من الصلاة بين كل تكبيرتين ، فبالأولى دخل في الصلاة ، وبالثانية خرج منها ، وبطلت . وبالثالثة دخل في الصلاة وبالرابعة خرج وبالخامسة دخل وبالسادسة خرج ، وهكذا أبدا ; لأن من افتتح صلاة ثم افتتح أخرى بطلت صلاته ; لأنه يتضمن قطع الأولى . فلو نوى بين كل تكبيرتين افتتاح الصلاة أو الخروج منها فبالنية يخرج من الصلاة وبالتكبير يدخل فلو لم ينو بالتكبيرة الثانية وما بعدها افتتاحا ولا دخولا ولا خروجا صح دخوله بالأولى ، ويكون باقي التكبيرات ذكرا لا تبطل به الصلاة ، بل حكم باقي الأذكار .



                                      ( الرابعة ) نص الشافعي والأصحاب أنه لو أخل بحرف واحد من التكبير لم تنعقد صلاته ، وهذا لا خلاف فيه ; لأنه ليس بتكبير .



                                      ( الخامسة ) المذهب الصحيح المشهور أنه يستحب أن يأتي بتكبيرة الإحرام بسرعة ، ولا يمدها لئلا تزول النية . وحكى المتولي وجها أنه يستحب مدها ، والمذهب الأول . قال الشافعي في الأم : يرفع الإمام صوته بالتكبير ويمده من غير تمطيط ولا تحريف ، قال الأصحاب : أراد بالتمطيط المد وبالتحريف إسقاط بعض الحروف كالراء من أكبر ، وأما تكبيرات الانتقالات كالركوع والسجود ففيها قولان ، القديم يستحب أن لا يمدها والجديد الصحيح يستحب مدها إلى أن يصل إلى الركن المنتقل إليه حتى لا يخلو جزء من صلاته من ذكر .



                                      ( السادسة ) قال المتولي وغيره : يجب على السيد أن يعلم مملوكه التكبير وسائر الأذكار المفروضة وما لا تصح الصلاة إلا به ، أو يخليه حتى يتعلم ، ويلزم الأب تعليم ولده وقد سبق بيان تعليم الوالد في مقدمة هذا الشرح وفي أول كتاب الصلاة .



                                      ( السابعة ) يجب على المكلف أن يتعلم التكبير وسائر الأذكار الواجبة بالعربية .



                                      [ ص: 259 ] الثامنة ) في بيان ما يترجم عنه بالعجمية وما لا يترجم ، أما الفاتحة وغيرها من القرآن فلا يجوز ترجمته بالعجمية بلا خلاف ; لأنه يذهب الإعجاز ، بخلاف التكبير وغيره ، فإنه لا إعجاز فيه . وأما تكبيرة الإحرام والتشهد الأخير والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وعلى الآل إذا أوجبناها فيجوز ترجمتها للعاجز عن العربية ، ولا يجوز للقادر . وأما ما عدا الألفاظ الواجبة فقسمان ، دعاء وغيره ، أما الدعاء المأثور ففيه ثلاثة أوجه أصحها : تجوز الترجمة للعاجز عن العربية ، ولا تجوز للقادر ، فإن ترجم بطلت صلاته . والثاني : تجوز لمن يحسن العربية وغيره . والثالث : لا تجوز لواحد منهما لعدم الضرورة إليه ، ولا يجوز أن يخترع دعوة غير مأثورة ويأتي بها بالعجمية بلا خلاف ، وتبطل بها الصلاة بخلاف ما لو اخترع دعوة بالعربية فإنه يجوز عندنا بلا خلاف .

                                      وأما سائر الأذكار كالتشهد الأول والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه والقنوت والتسبيح في الركوع والسجود ، وتكبيرات الانتقالات فإن جوزنا الدعاء بالعجمية فهذه أولى وإلا ففي جوازها للعاجز أوجه أصحها : يجوز والثاني : لا والثالث : يترجم لما يجبر بالسجود دون غيره وذكر صاحب الحاوي أنه إذا لم يحسن العربية أتى بكل الأذكار بالعجمية ، وإن كان يحسنها أتى بها بالعربية فإن خالف وقالها بالفارسية فما كان واجبا كالتشهد والسلام لم يجزه وما كان سنة كالتسبيح والافتتاح أجزأه وقد أساء .



                                      ( فرع ) إذا أراد الكافر الإسلام فإن لم يحسن العربية أتى بالشهادتين بلسانه ويصير مسلما بلا خلاف ، وإن كان يحسن العربية فهل يصح إسلامه بغير العربية ؟ فيه وجهان مشهوران الصحيح باتفاق الأصحاب صحته ، قال القاضي أبو الطيب وصاحب الحاوي وآخرون : قال أبو سعيد الإصطخري : لا يصير مسلما ، وقال عامة أصحابنا : يصير ، وكذا نقله عن الإصطخري الشيخ أبو حامد والبندنيجي والمحاملي وغيرهم ، واتفقوا على ضعفه ، وقاسه الإصطخري على تكبيرة الإحرام وفرق الأصحاب بأن المراد [ ص: 260 ] من الشهادتين الإخبار عن اعتقاده ، وذلك يحصل بكل لسان ، وأما التكبير فتعبد الشرع فيه بلفظ فوجب اتباعه مع القدرة .



                                      . ( التاسعة ) في مذاهب العلماء في التكبير بالعجمية : قد ذكرنا أن مذهبنا أنه لا تجوز تكبيرة الإحرام بالعجمية لمن يحسن العربية وتجوز لمن لا يحسن ، وبه قال مالك وأبو يوسف ومحمد وأحمد وداود والجمهور وقال أبو حنيفة تجوز الترجمة لمن يحسن العربية ولغيره ، واحتج بقوله تعالى { وذكر اسم ربه فصلى } ولم يفرق بين العربية وغيرها . وبحديث { تحريمها التكبير } وقياسا على إسلام الكافر ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم { صلوا كما رأيتموني أصلي } وكان يكبر بالعربية فإن قالوا : التكبيرة عندنا ليست من الصلاة بل شرط خارج عنها : قلنا : قد سبق الاستدلال على أنها من الصلاة . والجواب عن احتجاجهم بالآية أن المفسرين وغيرهم مجمعون على أنها لم ترد في تكبيرة الإحرام فلا تعلق لهم فيها ، وعن حديث { تحريمها التكبير } أنه محمول على التكبير المعهود ، وعن قياسهم على الإسلام أن المراد الإخبار عن اعتقاد القلب ، وذلك حاصل بالعجمية بخلاف التكبير .



                                      ( العاشرة ) تنعقد الصلاة بقوله : الله أكبر بالإجماع ، وتنعقد بقوله : الله الأكبر عندنا وعند الجمهور ، وقال مالك وأحمد وداود : لا تنعقد ، وهو قول قديم كما سبق ولا تنعقد بغير هذين ، فلو قال : الله أجل ، أو الله أعظم ، أو الله الكبير ونحوها لم تنعقد عندنا وعند مالك وأحمد وداود والعلماء كافة إلا أبا حنيفة فإنه قال : تنعقد بكل ذكر يقصد به تعظيم الله تعالى ، كقوله : الله أجل ، أو الله أعظم ، أو الحمد لله ولا إله إلا الله وسبحان الله وبأي أسمائه شاء كقوله : الرحمن أكبر أو أجل ، أو الرحيم أكبر أو أعظم ، والقدوس أو الرب أعظم ونحوها ، ولا تنعقد بقوله : يا الله ارحمني ، أو اللهم اغفر لي ، أو بالله أستعين وقال أبو يوسف تنعقد بألفاظ التكبير ، كقوله : الله أكبر أو الله الأكبر أو الله الكبير ، ولو قال : الله أو الرحمن ، واقتصر عليه من غير صفة ففي انعقاد صلاته روايتان عن أبي حنيفة [ ص: 261 ] واحتج لأبي حنيفة بقول الله تعالى { قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى } ولم يخص ذكرا . وعن أنس { أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين } رواه البخاري بهذا اللفظ ومسلم بلفظ آخر ، ولأنه ذكر فيه تعظيم فأجزأ كالتكبير ، ولأنه ذكر فلم يختص بلفظ كالخطبة .

                                      واحتج أصحابنا بحديث { تحريمها التكبير } وليس هو تمسكا بدليل الخطاب بل بمنطوق ، وهو أن قوله { تحريمها التكبير } يقتضي الاستغراق ، وأن تحريمها لا يكون إلا به ، وبقوله صلى الله عليه وسلم { صلوا كما رأيتموني أصلي } رواه البخاري كما سبق ، ولهم عليه اعتراض سبق هو وجوابه . وأما احتجاجهم بالآية فقد سبق أن المفسرين مجمعون على أنها لم ترد في تكبيرة الإحرام ، وعن حديث أنس رضي الله عنه أن المراد كانوا يفتتحون القراءة ، ففي رواية مسلم { فكانوا يفتتحون القراءة ب { الحمد لله رب العالمين } لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها } . وبينه حديث عائشة رضي الله عنها قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة ب { الحمد لله رب العالمين } } رواه البخاري ومسلم . وعن قولهم : ذكر فيه تعظيم أنه قياس يخالف السنة ، ولأنه ينتقض بقولهم : اللهم ارحمني والجواب عن الخطبة أن المراد الموعظة ويحصل بكل لفظ ، وهنا المراد الوصف بآكد الصفات ، وليس غير قولنا الله أكبر في معناه . واحتج أبو يوسف بحديث { تحريمها التكبير } وهو حاصل بقولنا الله الكبير ولأنه بمعناه . دليلنا ما سبق . وأما حديث { تحريمها التكبير } فمحمول على المعهود وهو الله أكبر . وأما قوله : إنه بمعناه فممنوع ; لأن في الله أكبر مبالغة وتعظيما ليس في غيره ، واحتج لمالك وموافقيه بأن المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم الله أكبر فلا يجوز الله الأكبر كما لا يجوز الله الكبير ، وكما لا يجوز في الأذان الله الأكبر . دليلنا أن قوله الله الأكبر هو [ ص: 262 ] الله أكبر وزيادة لا تغير فجاز كقوله : الله أكبر كبيرا ، وبهذا يحصل الجواب عن الحديث .

                                      قال القاضي أبو الطيب قالوا : يجوز الله الكبير الأكبر الموضوع للمبالغة ، وأما قولهم : لا يجوز في الأذان الله الأكبر ، فقال القاضي أبو الطيب والأصحاب : لا نسلمه بل يجوز ذلك في الأذان كالصلاة ، والله أعلم .



                                      ( الحادية عشرة ) تكبيرة الإحرام واحدة ولا تشرع زيادة عليها ، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة والإجماع منعقد عليه ، وحكى القاضي أبو الطيب والعبدري عن الرافضة أنه يكبر ثلاث تكبيرات ، وهذا خطأ ظاهر ، وهو مردود بنفسه غير محتاج إلى دليل على رده ، فلو كبر ثلاثا أو كبر ففيه التفصيل السابق في المسألة الثالثة .




                                      الخدمات العلمية