الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            إعلامه - صلى الله عليه وسلم - بالليل بأن أبا سفيان في الأراك وأمره بأخذه

            روى الطبراني عن أبي ليلى - رضي الله عنه - قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمر الظهران ، فقال : «إن أبا سفيان بالأراك فخذوه” فدخلنا ، فأخذناه .

            قال ابن عقبة : فبينما هم ، يعني أبا سفيان ،

            وحكيم بن حزام ، وبديل بن ورقاء كذلك لم يشعروا حتى أخذهم نفر كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثهم عيونا له ، فأخذوا بخطم أبعرتهم فقالوا : من أنتم ؟ فقالوا : هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، فقال أبو سفيان : هل سمعتم بمثل هذا الجيش ، نزلوا على أكباد قوم لم يعلموا بهم .

            وروى ابن أبي شيبة عن أبي سلمة ، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب - رحمهما الله تعالى - قالا : أخذ أبو سفيان وأصحابه وكان حرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفر من الأنصار ، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - تلك الليلة على الحرس ، فجاؤوا بهم إليه ، فقالوا : جئناك بنفر أخذناهم من أهل مكة ، فقال عمر وهو يضحك إليهم : والله لو جئتموني بأبي سفيان ما زدتم . قالوا : قد والله آتيناك بأبي سفيان . فقال : احبسوه فحبسوه حتى أصبح . فغدا به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال ابن عقبة : لما دخل الحرس بأبي سفيان وصاحبيه ، لقيهم العباس بن عبد المطلب ، فأجارهم .

            وروى ابن أبي شيبة عن عكرمة : أن أبا سفيان لما أخذه الحرس قال : دلوني على العباس ، فأتى العباس فأخبره الخبر ، وذهب به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

            وروى إسحاق بن راهويه - بسند صحيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزل مر الظهران ، رقت نفس العباس لأهل مكة فقال : واصباح قريش ، والله لئن دخلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة ، إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر ،

            قال العباس : فأخذت بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشهباء فركبتها ، وقلت :

            ألتمس حطابا ، أو صاحب لبن ، أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة ، فو الله إني لفي الأراك ألتمس ما خرجت إليه إذ سمعت كلام أبي سفيان ، وبديل بن ورقاء ، وهما يتراجعان ، وأبو سفيان يقول : ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا! فقال بديل بن ورقاء : هذه والله خزاعة حمشتها الحرب ، فقال أبو سفيان : خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها ، قال العباس : فعرفت صوت أبي سفيان ، فقلت : يا أبا حنظلة ، فعرف صوتي ، فقال : لبيك يا أبا الفضل ، ما لك فداك أبي وأمي!! وعرف صوتي ، فقلت : ويلك!! هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عشرة آلاف فقال : واصباح قريش والله بأبي أنت وأمي فما تأمرني ، هل من حيلة ؟ قلت : نعم ، اركب عجز هذه البغلة ، فأذهب بك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأستأمنه لك ، فإنه والله إن ظفر بك دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتقتلن ، فركب خلفي ، ورجع صاحباه
            - كذا في حديث ابن عباس وعند ابن إسحاق ، ومحمد بن عمر : أنهما رجعا - وذكر ابن عقبة ، ومحمد بن عمر في موضع آخر :

            أنهما لم يرجعا ، وأن العباس قدم بهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى .

            قال العباس : فجئت بأبي سفيان ، كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا : من هذا ؟

            فإذا رأوا بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا عليها قالوا : عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بغلته ، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فلما رآني ، قام ، فقال : من هذا ؟ قلت : العباس ، فذهب ينظر ، فرأى أبا سفيان خلفي ، فقال : أي عدو الله!! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ، ثم خرج يشتد نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وركضت البغلة فسبقته كما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء ، فاجتمعنا على باب قبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاقتحمت عن البغلة فدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودخل عمر على أثري ، فقال عمر : يا رسول الله!! هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد ، فدعني فلأضرب عنقه ، قال قلت : يا رسول الله إني قد أجرته ، ثم التزمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذت برأسه ، فقلت : والله لا يناجيه الليلة دوني رجل . فلما أكثر عمر في شأنه ، فقلت : مهلا يا عمر ، فو الله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت هذا ، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف ، فقال : مهلا يا عباس ، وفي لفظ يا أبا الفضل ، فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلى من إسلام الخطاب لو أسلم ، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إسلام الخطاب لو أسلم
            .

            وذكر ابن عقبة ، ومحمد بن عمر في موضع آخر : قال العباس ، فقلت : يا رسول الله!! أبو سفيان بن حرب ، وحكيم بن حزام ، وبديل بن ورقاء قد أجرتهم ، وهم يدخلون عليك ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم «أدخلهم فدخلوا عليه ، فمكثوا عنده عامة الليل يستخبرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعاهم إلى الإسلام ، فقالوا : نشهد أن لا إله إلا الله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :

            «اشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله” ، فشهد بديل ، وحكيم بن حزام ،

            وقال : أبو سفيان : ما أعلم ذلك ، والله إن في النفس من هذا لشيء بعد ، فأرجئها .


            وعند أبي شيبة عن أبي سلمة ، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب : أنه قيل لحكيم بن حزام : بايع ، فقال : أبايعك ولا أخر إلا قائما . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أما من قبلنا فلن تخر إلا قائما” . انتهى .

            وقيل لأبي سفيان ذلك ، فقال : كيف أصنع باللات والعزى ؟ فقال عمر بن الخطاب - وهو خارج القبة : اخرأ عليها ، أما والله لو كنت خارج القبة ما قلتها ، فقال أبو سفيان : من هذا ؟

            قالوا : عمر بن الخطاب

            قال العباس : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «اذهب به يا عباس إلى رحلك ، فإذا أصبحت فأتني به” قال : فذهبت به إلى رحلي .

            وعند ابن عقبة ، ومحمد بن عمر : فلما أذن الصبح أذن العسكر كلهم : أي أجابوا المؤذن - ففزع أبو سفيان من أذانهم ، فقال : ما يصنع هؤلاء ؟ قال العباس ، فقلت : الصلاة . قال :

            كم يصلون ؟ قلت : خمس صلوات في اليوم والليلة ، ثم رآهم يتلقون وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما رأيت ملكا قط كاليوم لا ملك كسرى ولا قيصر ، قال العباس : فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح غدوت به . وعند ابن عقبة ، ومحمد بن عمر : إن أبا سفيان سأل العباس في دخوله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعند ابن أبي شيبة عن أبي سلمة ، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب : فلما أصبحوا قام المسلمون إلى طهورهم ، فقال أبو سفيان : يا أبا الفضل!! ما للناس أمروا في بشيء ؟ قال : لا ولكنهم قاموا إلى الصلاة ، فأمره العباس فتوضأ ، وذهب به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة كبر وكبر الناس ، ثم ركع ، فركعوا ، ثم رفع ، فرفعوا ، ثم سجد فسجدوا ، فقال أبو سفيان : ما رأيت كاليوم طاعة ، قوم جمعهم من ههنا وههنا ، ولا فارس الأكارم ، ولا الروم ذات القرون بأطوع منهم له ، يا أبا الفضل أصبح ابن أخيك والله عظيم الملك ، فقال العباس : إنه ليس بملك ، ولكنها النبوة ، قال : أو ذاك .

            قال العباس : فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : «يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟ ! قال : بأبي أنت وأمي!! ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك! إنه لو كان مع الله إله لقد أغنى عني شيئا بعد ، لقد استنصرت إلهي ، واستنصرت إلهك ، فو الله ما لقيتك من مرة ، إلا نصرت علي ، فلو كان إلهي محقا وإلهك مبطلا لقد غلبتك ، فقال : «ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟ قال : بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك! أما هذه فو الله إن في النفس منها شيئا حتى الآن ،

            فقال العباس : ويحك! أسلم قبل أن تضرب عنقك فشهد شهادة الحق ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله . وظاهر كلام ابن عقبة ومحمد بن عمر في مكان آخر إن أبا سفيان قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله من غير أن يعرض ذلك عليه أحد .

            قال : قال أبو سفيان ، وحكيم بن حزام : يا رسول الله جئت بأوباش الناس من يعرف ومن لا يعرف إلى أهلك وعشيرتك! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أنتم أظلم وأفجر ، قد غدرتم بعهد الحديبية ، وظاهرتم على بني كعب بالإثم والعدوان في حرم الله - تعالى - وأمنه” فقال حكيم وأبو سفيان : صدقت يا رسول الله : ثم قالا :

            يا رسول الله!! لو كنت جعلت جدك ومكيدتك لهوازن ، فهم أبعد رحما ، وأشد عداوة لك .

            فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إني لأرجو من ربي أن يجمع لي ذلك كله . فتح مكة ، وإعزاز الإسلام بها ، وهزيمة هوازن ، وغنيمة أموالهم وذراريهم ، فإني أرغب إلى الله - تعالى - في ذلك

            “ .

            قال ابن عقبة : قال أبو سفيان ، وحكيم بن حزام : يا رسول الله ادع الناس بالأمان ، أرأيت إن اعتزلت قريش وكفت أيديها آمنون هم ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «نعم”

            قال العباس ، قلت :

            يا رسول الله!! قد عرفت أبا سفيان وجه الشرف والفخر ، فاجعل له شيئا .


            وعند ابن أبي شيبة عن أبي سلمة ، ويحيى بن عبد الرحمن : أن أبا بكر قال : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب السماع ، يعني الشرف - انتهى . فقال «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن” فقال : وما تسع داري ؟ زاد ابن عقبة «ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن” ودار أبي سفيان بأعلى مكة ، ودار حكيم بأسفلها «ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن” فقال أبو سفيان : وما يسع المسجد ؟ قال : «ومن أغلق بابه فهو آمن فقال أبو سفيان : هذه واسعة . قال القاضي أبو بكر بن العربي - رحمه الله تعالى - إنما أنكر العباس على أبي سفيان ذكر الملك مجردا من النبوة ، مع أنه كان في أول دخوله الإسلام ، وإلا فجائز أن يسمى مثل هذا ملكا وإن كان لنبي ، فقد قال الله سبحانه وتعالى في داود وشددنا ملكه [ص 20] وقال سليمان وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي [ص 35] غير أن الكراهة أظهر في تسمية حال النبي - صلى الله عليه وسلم - ملكا ، لما جاء في الحديث : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - خير بين أن يكون نبيا عبدا ، أو نبيا ملكا ، فالتفت إلى جبريل ، فأشار إليه أن تواضع ، فقال : بل نبيا عبدا ، أشبع يوما وأجوع يوما” . وإنكار العباس على أبي سفيان يقوي هذا المعنى ، وأمر الخلفاء الأربعة بعده أيضا يكره أن يسمى ملكا ، لقوله - صلى الله عليه وسلم «تكون بعدي خلفاء ، ثم تكون أمراء ، ثم يكون ملوك ، ثم يكون جبابرة” .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية