الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون الإنفاق في سبيل الله ، سبيل النفع العام ، يثمر ثمراته من الخير العميم ; لأن العطاء المادي ينتج نتائجه من معونة في الجهاد ، وسد للثغور ، ومنع للأذى ، ودفع للكرب ، ولكن المنفق لا يستحق ثواب الإنفاق إلا إذا كان طيب النفس في عطائه لا يرنقه من ولا أذى ولا رياء ; فالصدقة [ ص: 975 ] تنتج آثارها في الجماعة حتما ، مهما تكن نية صاحبها ، ولكن صاحبها لا ينال أجر المنفق إلا إذا خلصت نفسه من هذه العناصر الثلاثة : المن ، والأذى ، والرياء ; فإن النتائج للأعمال ، أما الثواب فللنيات ; كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى " .

                                                          والمن : أن يعد الإنسان إحسانه على من أحسن إليه ، متطاولا به عليه ، مبينا له : أنها فضل ساقه إليه ، غير مشكور ، وإن ذلك فيه اتجاه إلى طلب المثوبة من العبد ، لا من الرب ، فله ما اختار . ولقد قال الزمخشري في تفسيره : " صنوان من منح سائله ومن ، ومن منع نائله وضن " ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " ثلاثة لا يدخلون الجنة : العاق لوالديه ، والمدمن الخمر ، والمنان بما أعطى " .

                                                          والأذى : أن يصدر عنه ما يؤلم من يأخذ ولو بغير من ، كأن يقول له : ألا تعمل ! أو يتجهم في وجهه عند العطاء ، أو ينتقد بغير الحق الذين قاموا على المال الذي جمع لوجه عام . ويروى أن امرأة قالت لصحابي : دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقا ، فإنهم إنما يخرجون يأكلون الفواكه ، فإن عندي أسهما وجعبة ، فقال : " لا بارك الله في أسهمك وجعبتك فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم ! ".

                                                          ولماذا كان المن والأذى مانعين للأجر ; لأن الأجر هو جزاء من الله ، فمن تصدق يبتغي وجه الله فله ثوابه ، ومن من أو آذى فقد قصد غير وجه الله فليس له أن يطلب ثوابه . ولقد قال في ذلك ابن جرير الطبري :

                                                          ( أوجب الأجر لمن كان غير مان ولا مؤذ لمن أنفق عليه في سبيل الله ; لأن النفقة في سبيل الله مما ابتغى به وجه الله وطلب به ما عنده ; فإذا كان معنى النفقة في سبيل الله هو ما وصفنا ، فلا وجه لمن المنفق على من أنفق عليه ; لأنه لا يد له قبله ، ولا صنيعة يستحق بها عليه - إن لم يكافئه عليها - المن والأذى إذا كانت نفقة ما أنفق عليه احتسابا وابتغاء ثواب الله وطلب مرضاته ، وعلى الله مثوبته دون من أنفق عليه ) .

                                                          [ ص: 976 ] وقد بين سبحانه جزاء الذين ينفقون على هذا الوجه لا يبتغون إلا رضاء سبحانه ، ولا يرجون ثوابا من أحد سواه ، فذكر جزاءين عظيمين :

                                                          أولهما : لهم أجرهم عند ربهم أي لهم جزاؤهم مكافأة لهم على أعمالهم

                                                          وسماه سبحانه وتعالى أجرا ، وهو المعطي الوهاب ، توثيقا للعطاء ، وقال سبحانه : " لهم " ، ولم يقل مثلا : " أعطيهم " ، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى للإشارة إلى أنه كان لهم بنياتهم ، واستحقوه باحتسابهم ، وليعلمهم كيف يكون العطاء من غير أجر ; إنه سبحانه وتعالى هو الذي منحهم المال الذي أعطوا منه ، وهو الذي وفقهم لأن يعطوا ، وهو الذي يملكهم وما ينفقون وما يعملون ، ومع ذلك يسمي ما يعطيهم أجرا قدموا مثيله من قبله مع أنه يعطيهم أضعافا كثيرة عنه ، ولكنه يعلم الناس كيف يكون البعد عن المن ، وكيف العطاء غير ممنون .

                                                          الجزاء الثاني الذي ذكره رب العالمين هو الأمن والاطمئنان ; ولذا قال سبحانه : ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقد نفى سبحانه وتعالى الخوف ، ولم يقل لا يخافون ; لأن الخوف أمر نفسي ، وقد يكون من غير مخوف ، وتكون الخشية والخوف من شأن المؤمن شعورا بتحمل التبعة ; ولذا نفى سبحانه الخوف أي الأمر المخوف ، أي لا ينزل بهم أمر من شأنه أن يخافوه ، ولم ينف الخشية النفسية في ذاتها ; إذ الحال النفسية من قوة الإحساس ; ولذا يقول الصوفية : غلب الخوف على الرجاء . أما الحزن وهو الهم الذي يصيب القلب فهو منفي في كل صورة ولا يصح أن يكون حالا من حالات الإيمان .

                                                          وما الخوف المنفي والحزن ؟ أهما ما يكونان في الآخرة ; جل العلماء على ذلك ، ولكن لماذا لا يراد ما هو أعم من أحوال الدنيا والآخرة ; وإن ذلك ما نختاره ; لأن الإنفاق في سبيل الله يدفع خطر الأعداء من خارج الأمة ، ويجمع الوحدة ويقضي على أسباب الفتن الداخلية ، فيكون الأمن في الداخل والخارج معا ، فالمنفقون في سبيل الله لا خوف عليهم في الدنيا ، ولا يحزنون في الدنيا أيضا كما أنهم لا خوف عليهم في الآخرة ولا يحزنون .

                                                          [ ص: 977 ] وقبل أن ننتقل إلى الآية الثالثة من آيات الإنفاق ننبه إلى بحثين لفظيين : أولهما : أن الله سبحانه وتعالى كرر النفي فقال : ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لتأكيد النفي ، بألا يصدر عنهم أي نوع من أنواع الأذى ، فلا يكون من ، ولا شبهة من ، ولا أذى ، سواء أكان أذى عن قرب أو بعد ; حتى لقد قال بعض الصالحين : ( لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه تريد وجه الله فلا تسلم عليه ) .

                                                          وثانيهما : إنه سبحانه وتعالى عطف بـ ( ثم ) في قوله تعالى : الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى فلماذا كان العطف بـ ( ثم ) دون الفاء ؟ فهل مقتضى هذا أنه يسوغ المن والأذى عند العطاء ، ولا يسوغ بعده بفترة من الزمان ؟ والجواب عن ذلك أن التعبير بـ ( ثم ) أفاد النفي المطلق على عدم اتباع الإنفاق بالمن والأذى في زمن قريب أو بعيد ; لأن المنفق في غالب الأحوال يكون عند إنفاقه في حال حماسية نفسية تدفعه إلى الإنفاق ، فما يفكر في من ولا أذى وقته ، وإن خطر له ذلك فقد يمنعه من الإعطاء ، إنما يكون التفكير في المن أو الأذى بعد ذهاب فورة الخير في النفس ، فإذا كان الله سبحانه قد صدر النفي بـ " ثم " فليحث المنفق على الاستمرار على نزعة الخير ، ولا ينكص على عقبيه ، فيفسد نيته بأذى يؤذي به من أجرى الخير على يديه ، أو من يمن به على من أعطاه .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية