الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة مجتهد الصحابة إذا لم يجعل قوله حجة ففي جواز تقليده في هذه الأعصار خلاف : ذهب إمام الحرمين وغيره أن العامي لا يقلده ، ونقله عن إجماع المحققين ، قالوا : وليس هذا لأن دون المجتهدين دون الصحابة ، معاذ الله : فهم أعظم وأجل قدرا ، بل لأن مذهبهم لم يثبت حق الثبوت كما ثبتت مذاهب الأئمة الذين لهم أتباع قد طبقوا الأرض ، ولأنهم لم يعتنوا بتهذيب مسائل الاجتهاد ولم يقرروا لأنفسهم أصولا تفي بأحكام الحوادث كلها ، بخلاف من بعدهم فإنهم كفوا النظر في ذلك وسبروا ونظروا وأكثروا أوضاع المسائل . ونازع المقترح وقال : لا يلزم من سبر الأئمة الأربعة وجوب تقليدهم ، لأن من بعدهم جمع سبرا أكثر منهم . وينبغي أن يتبع المتأخرين منهم على قضية هذا . قال : إنما الظاهر في التعليل في العوام أنهم لو كلفوا تقليد الصحابة لكان فيه من المشقة عليهم ما لا يطيقون من تعطيل معاشهم وغير ذلك ، فلهذا سقط عنهم تقليد الصحابة [ ص: 339 ] قلت : وسئل محمد بن سيرين فأحسن فيها الجواب ، فقال له السائل ما معناه : ما كانت الصحابة لتحسن أكثر من هذا ، فقال محمد : لو أردنا فقههم لما أدركه عقولنا . رواه أبو نعيم في الحلية " .

                                                      ومال ابن المنير إلى ما قاله الإمام ولكن لغير هذا المأخذ فقال ما حاصله : إنه يتطرق إلى مذهب الصحابة احتمالات لا يتمكن العامي معها من التقليد : من قوة عباراتهم واستصعابها على أفهام العامة . ومنها : احتمال رجوع الصحابي عن ذلك المذهب ، كما وقع لعلي وابن عباس وغيرهما . - ومنها : أن يكون الإجماع قد انعقد بعد ذلك القول على قول آخر . - ومنها : أن لا يكون إسناد ذلك إلى الصحابة على شرط الصحة . وهذا بخلاف مذاهب المصنفين فإنها مدونة في كتبهم وهي متواترة عنهم بنقلها عن الأئمة ، فلهذه الغوائل حجرنا على العامي أن يتعلق بمذهب الصحابي . ثم وراء ذلك غائلة هائلة ، وهي أنه يمكن أن الواقعة التي وقعت له هي الواقعة التي أفتى فيها الصحابي ويكون غلطا ، لأن تنزيل الوقائع على الوقائع من أدق وجوه الفقه وأكثرها للغلط . وبالجملة فالقول بأن العامي لا يتأهل لتقليد الصحابة قريب من القول بأنه لا يتأهل للعمل بأدلة الشرع ونصوصه وظواهره . إما لأن قول الصحابي حجة على أحد القولين فهو ملحق بقول الشارع ، وإما لأنه في علو المرتبة يكاد يكون حجة ، فامتناع تقليده لعلو قدره لا لنزوله . وأما ابن الصلاح فجزم في كتاب الفتيا " بما قاله الإمام وزاد أنه لا يقلد التابعين أيضا ولا من لم يدون مذهبه ، وإنما يقلد الذين دونت مذاهبهم وانتشرت حتى ظهر منها تقييد مطلقها وتخصيص عامها ، بخلاف غيرهم فإنه نقلت عنهم الفتاوى مجردة ، فلعل لها مكملا أو مقيدا أو مخصصا ، أو أنيط كلام قائله ، فامتناع التقليد إنما هو لتعذر نقل حقيقة مذهبهم .

                                                      [ ص: 340 ] وعلى هذا فينحصر التقليد في الأئمة الأربعة والأوزاعي وسفيان . وإسحاق وداود على خلاف في داود حكاه ابن الصلاح وغيره ، لأن هؤلاء هم ذوو الأتباع . ولأبي ثور وابن جرير أتباع قليلة جدا . وذهب غيرهم إلى [ أن ] الصحابة يقلدون لأنهم قد نالوا رتبة الاجتهاد ، وهم بالصحبة يزدادون رفعة . وهذا هو الصحيح إن علم دليله . وقد قال الشيخ عز الدين في فتاويه " إذا صح عن بعض الصحابة مذهب في حكم من الأحكام لم تجز مخالفته إلا بدليل أوضح من دليله . وقد قال : لا خلاف بين الفريقين في الحقيقة ، بل إن تحقق ثبوت مذهب عن واحد منهم جاز تقليده وفاقا ، وإلا فلا ، [ لا ] لكونه لا يقلد ، بل لأن مذهبه لم يثبت حق الثبوت . وقال ابن برهان : تقليد الصحابة ينبني على جواز الانتقال في المذاهب فمن منعه قال : مذاهب الصحابة لم تكثر فروعها حتى يمكن المكلف الاكتفاء بها فيؤديه ذلك إلى الانتقال ، وهو ممنوع ، ومذاهب المتأخرين ضبطت ، فيكفي المذهب الواحد المكلف طول عمره ، فيكمل هذا الحكم وهو منع تقليد الصحابة . وقال إلكيا ، بعد أن قرر منع الانتقال : الواحد منا لا يأخذ بمذهب الصحابة إذا كان مقلدا ، بل يأخذ بمذهب الشافعي أو غيره من أرباب المذاهب ، من حيث إن الأصول التي وضعها أبو بكر لا تفي بمجامع المسائل . وأما الأصول التي وضعها الشافعي وأبو حنيفة فهي وافية بها . فلو قلنا بتقليد الصديق في حكم لزم أن يرجع إليه في حكم آخر ، وقد لا يجده . مسألة القائلون بالتقليد أوجبوا التقليد في هذه الأعصار ومستندهم فيه أنهم

                                                      [ ص: 341 ] استوعبوا الأساليب الشرعية فلم يبق لمن بعدهم أسلوب متماسك على السبر . ولهذا لما أحدثت الظاهرية والجدلية بعدهم خلاف أساليبهم قطع كل محقق أنها بدع ومخارق لا حقائق . لكن الجدلية يعترفون بأن الشريعة لا تثبت بتلك الأساليب الجدلية ، وإنما عمدتهم في استحداثها تمرين الأذهان وتفتيح الأفكار . وأما كونهم يعتقدون أنها مستندات وحجج عند الله يلقى بها فلا . وأما الظاهرية فلما أحدثوا قواعد تخالف قواعد الأولين أفضت به إلى المناقضة لمجلس الشريعة ، ولما اجترءوا على دعوى أنهم على الحق وأن غيرهم على الباطل أخرجوا من أهل الحل والعقد ، ولم يعدهم المحققون من أحزاب الفقهاء ، وسبق في باب الإجماع الكلام على أنه هل يعتد بخلافهم ؟ وهذا كله يوضح أن الضرورة دعت المتأخرين إلى اتباع المتقدمين ، لأنهم سبقوهم بالبرهان حتى لم يبقوا لهم باقية يستبدون بها ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، ولكن الفضل للمتقدم ، وظهر بهذا تعذر إثبات مذهب مستقل بقواعد .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية