الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              2741 كتاب اللعان

                                                                                                                              اللعان، والملاعنة، والتلاعن: ملاعنة الرجل امرأته. يقال:

                                                                                                                              تلاعنا، والتعنا، ولاعن القاضي بينهما.

                                                                                                                              وسمي لعانا: لقول الزوج: عليه لعنة الله، إن كان من الكاذبين.

                                                                                                                              باب في الذي يجد مع امرأته رجلا

                                                                                                                              وقال النووي : (كتاب اللعان) .

                                                                                                                              وقال: اختير لفظ "اللعن" على لفظ الغضب، وإن كانا موجودين في الآية الكريمة، وفي صورة اللعان: لأن لفظ اللعنة، متقدم في الآية الكريمة، وفي صورة اللعان. ولأن جانب الرجل فيه: أقوى من جانبها، لأنه قادر على الابتداء باللعان دونها. ولأنه قد ينفك لعانه عن لعانها ولا ينعكس. وقيل: سمي لعانا (من اللعن، وهو الطرد والإبعاد) : لأن [ ص: 415 ] كلا منهما يبعد عن صاحبه، ويحرم النكاح بينهما على التأبيد، بخلاف المطلق وغيره.

                                                                                                                              حديث الباب

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 119 - 120 جـ 10 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن ابن شهاب: أن سهل بن سعد الساعدي أخبره: أن عويمرا العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري فقال له: أرأيت يا عاصم لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه؟ أم كيف يفعل؟ فسل لي عن ذلك يا عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر فقال: يا عاصم ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عاصم لعويمر: لم تأتني بخير قد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة التي سألته عنها، قال عويمر: والله! لا أنتهي حتى أسأله عنها، فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط الناس، فقال يا رسول الله: أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه؟ أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قد نزل فيك وفي صاحبتك، فاذهب فأت بها" قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغا قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله! إن أمسكتها. فطلقها [ ص: 416 ] ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن شهاب: فكانت سنة المتلاعنين].

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن سهل بن سعد الساعدي، رضي الله عنه: أن عويمرا العجلاني، جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري فقال له: أرأيت، يا عاصم!) أي: أخبرني، عن حكم من وقع له ذلك.

                                                                                                                              (لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا، أيقتله فتقتلونه؟ أم كيف يفعل؟ فسل لي عن ذلك، يا عاصم ! رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: المسائل وعابها.

                                                                                                                              المراد: كراهة المسائل التي لا يحتاج إليها. لاسيما ما كان فيه: هتك ستر مسلم، أو مسلمة. أو إشاعة فاحشة، أو شناعة، على مسلم أو مسلمة.

                                                                                                                              قال العلماء: أما إذا كانت المسائل مما يحتاج إليه في أمور الدين، وقد وقع: فلا كراهة فيها. وليس هو المراد في الحديث.

                                                                                                                              وقد كان المسلمون: يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الأحكام الواقعة، فيجيبهم ولا يكرهها.

                                                                                                                              [ ص: 417 ] وإنما كان سؤال عاصم في هذا الحديث، عن قصة لم تقع بعد، ولم يحتج إليها. وفيها شناعة على المسلمين والمسلمات، وتسليط اليهود والمنافقين ونحوهم: على الكلام في أعراض المسلمين، وفي الإسلام. ولأن من المسائل: ما يقتضي جوابه تضييقا.

                                                                                                                              وفي الحديث الآخر: "أعظم الناس جرما: من سأل عما لم يحرم، فحرم من أجل مسألته".

                                                                                                                              (حتى كبر على عاصم: ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فلما رجع عاصم إلى أهله، جاءه عويمر فقال: يا عاصم ! ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال عاصم لعويمر: لم تأتني بخير. قد كره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: المسألة التي سألته عنها. قال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأله عنها. فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسط الناس، فقال: يا رسول الله ! أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا، أيقتله فتقتلونه؟ أم كيف يفعل؟

                                                                                                                              معناه: إذا وجد رجلا مع امرأته، وتحقق أنه زنى بها. فإن قتله:

                                                                                                                              قتلتموه. وإن تركه: صبر على عظيم. فكيف طريقه؟

                                                                                                                              [ ص: 418 ] وقد اختلف أهل العلم: فيمن قتل رجلا، وزعم أنه وجده قد زنى بامرأته; فقال جمهورهم: لا يقبل قوله. بل يلزمه القصاص. إلا أن تقوم بذلك بينة، أو يعترف به ورثة القتيل.

                                                                                                                              والبينة: أربعة من عدول الرجال، يشهدون على نفس الزنا، ويكون القتيل محصنا.

                                                                                                                              وأما فيما بينه وبين الله: فإن كان صادقا فلا شيء عليه.

                                                                                                                              وقال بعض الشافعية: يجب على كل من قتل زانيا محصنا: القصاص; ما لم يأمر السلطان بقتله.

                                                                                                                              قال النووي : والصواب: الأول. وجاء عن بعض السلف تصديقه:

                                                                                                                              في أنه زنى بامرأته، وقتله بذلك. انتهى.

                                                                                                                              وشرط أحمد، وإسحاق، ومن تبعهما: أن يأتي بشاهدين: أنه قتله بسبب ذلك. ووافقهما ابن القاسم، وابن حبيب، من المالكية: لكن زاد أن يكون المقتول محصنا.

                                                                                                                              وقال بعض السلف: لا يقتل أصلا، ويعذر فيما فعله: إذا ظهرت أمارات صدقه. والله أعلم.

                                                                                                                              (فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قد نزل فيك وفي صاحبتك، فاذهب فائت بها". قال سهل: فتلاعنا.

                                                                                                                              [ ص: 419 ] هذا الكلام فيه حذف. ومعناه: أنه سأل، وقذف امرأته، فأنكرت الزنا، وأصر كل واحد منهما على قوله، ثم تلاعنا.

                                                                                                                              (وأنا مع الناس، عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) .

                                                                                                                              فيه: أن اللعان، يكون بحضرة الإمام، أو القاضي. وبجمع من الناس، ومسمع منهم، ومرأى. وهو أحد أنواع تغليظ اللعان. فإنه تغليظ: بالزمان، والمكان، والجمع.

                                                                                                                              فأما الزمان: فبعد العصر. والمكان: في أشرف موضع في ذلك البلد.

                                                                                                                              والجمع: طائفة من الناس، أقلهم: أربعة.

                                                                                                                              قال النووي : وهل هذه التغليظات، واجبة أم مستحبة؟ فيه خلاف عندنا. والأصح: الاستحباب.

                                                                                                                              قال العلماء: وجوز اللعان: لحفظ الأنساب، ودفع المعرة عن الأزواج. وأجمع العلماء: على صحة اللعان في الجملة.

                                                                                                                              قال: واللعان عند جمهور أصحابنا: يمين. وقيل شهادة، وبه قال الحنفية، ومالك. لقوله تعالى: { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله } . وبحديث ابن عباس: (فجاء هلال فشهد، ثم قامت فشهدت) .

                                                                                                                              [ ص: 420 ] وقيل: يمين، فيها ثبوت شهادة. وقيل: عكسه.

                                                                                                                              قلت: وقال بعض العلماء: ليس يمينا ولا شهادة.

                                                                                                                              قال الحافظ: والذي تحرر لي: أنها من حيث الجزم بنفي الكذب وإثبات الصدق: يمين. لكن أطلق عليها: شهادة: لاشتراط: أن لا يكتفى في ذلك بالظن. بل لا بد من وجود علم كل منهما بالأمرين، علما يصح معه: أن يشهد. انتهى.

                                                                                                                              قال العلماء: وليس من الأيمان شيء متعدد: إلا اللعان، والقسامة.

                                                                                                                              ولا يمين في جانب المدعي، إلا فيهما. والله أعلم.

                                                                                                                              (فلما فرغا قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله ! إن أمسكتها: فطلقها ثلاثا، قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال ابن شهاب: فكانت سنة المتلاعنين) .

                                                                                                                              وفي الرواية الأخرى: (فارقها عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ذاكم التفريق بين كل متلاعنين".) .

                                                                                                                              وفي أخرى: أنه لاعن، ثم لاعنت، ثم فرق بينهما.

                                                                                                                              [ ص: 421 ] وفي رواية: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا سبيل لك عليها") .

                                                                                                                              واختلف العلماء في الفرقة باللعان; فقال مالك، والشافعي، والجمهور: تقع الفرقة بين الزوجين، بنفس التلاعن، ويحرم عليه نكاحها على التأبيد، لهذه الأحاديث.

                                                                                                                              لكن قال الشافعي، وبعض المالكية: تحصل الفرقة بلعان الزوج وحده، ولا تتوقف على لعان الزوجة.

                                                                                                                              وقال بعض المالكية: تتوقف على لعانها.

                                                                                                                              وقال أبو حنيفة: لا تحصل الفرقة، إلا بقضاء القاضي بها بعد التلاعن، لقوله: ثم فرق بينهما.

                                                                                                                              وقال الجمهور: لا تفتقر إلى قضاء القاضي، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا سبيل لك عليها". والرواية الأخرى: "ففارقها".

                                                                                                                              وقال الليث: لا أثر للعان في الفرقة، ولا يحصل به فراق أصلا. واختلف القائلون بتأبيد التحريم، فيما إذا كذب بعد ذلك نفسه. فقال أبو حنيفة: تحل له. لزوال المعنى المحرم.

                                                                                                                              وقال مالك، والشافعي، وغيرهما: لا تحل له أبدا. لعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا سبيل لك عليها ". والله أعلم.

                                                                                                                              وأما قوله: (كذبت عليها، إن أمسكتها) : فهو كلام تام مستقل.

                                                                                                                              [ ص: 422 ] ثم ابتدأ فقال: (هي طالق ثلاثا) . تصديقا لقوله: في أنه لا يمسكها.

                                                                                                                              وإنما طلقها، لأنه ظن: أن اللعان لا يحرمها عليه. فأراد: تحريمها بالطلاق، فقال: هي طالق: ثلاثا. فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لا سبيل لك عليها"، أي: لا ملك لك عليها. فلا يقع طلاقك. وهذا دليل: على أن الفرقة تحصل بنفس اللعان.

                                                                                                                              واستدل به الشافعية: على أن جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد: ليس حراما. وموضع الدلالة: أنه لم ينكر عليه: إطلاق لفظ "الثلاث".

                                                                                                                              وقد يعترض على هذا فيقال: إنما لم ينكر عليه: لأنه لم يصادف الطلاق محلا مملوكا له، ولا نفوذا.

                                                                                                                              ويجاب: بأنه لو كان الثلاث محرما: لأنكر عليه، وقال له: كيف ترسل لفظ الطلاق الثلاث مع أنه حرام؟. والله أعلم.

                                                                                                                              وقال ابن نافع من أصحاب مالك: إنما طلقها ثلاثا بعد اللعان: لأنه يستحب: إظهار الطلاق بعد اللعان. مع أنه: قد حصلت الفرقة بنفس اللعان.

                                                                                                                              وهذا فاسد. وكيف يستحب للإنسان: أن يطلق من صارت أجنبية؟

                                                                                                                              [ ص: 423 ] وقال محمد بن أبي صفرة المالكي: لا تحصل الفرقة بنفس اللعان. واحتج: بطلاق عويمر. وبقوله: إن أمسكتها. وتأوله الجمهور كما سبق.




                                                                                                                              الخدمات العلمية