الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ) .

                          هذه الآية بيان للركن الثاني من أركان الدين وهو البعث بعد الموت والجزاء على الأعمال .

                          يقول تعالى : ( إليه مرجعكم جميعا ) أي إلى ربكم دون غيره من معبوداتكم وشفعائكم وأوليائكم ترجعون جميعا بعد الموت وفناء هذا العالم الذي أنتم فيه ، لا يتخلف منكم أحد ( وعد الله حقا ) أي وعد الله هذا وعدا حقا لا يخلف ( إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ) هذا بيان لمتعلق الوعد المؤكد مرتين بدليله ، أي إن شأنه تعالى أن يبدأ الخلق وينشئه عند التكوين ، ثم يعيده في نشأة أخرى بعد انحلاله وفنائه ، فالتعبير بفعل المستقبل ( يبدأ ) لتصوير الشأن ، وهو يشمل الماضي والمستقبل ، ولفظ الخلق عام يراد به الخاص أولا وبالذات ، بدليل ما قبله وما بعده من السياق ، وقد أجمع علماء الكون الماديون منهم والروحيون على أن الأرض وجميع الأجرام السماوية ، ما يرى منها بالأبصار والآلات المقربة للأبعاد وما لا يرى ، كلها قد وجدت بعد أن لم تكن . وإن كانوا لا يزالون يبحثون في نشأة تكوينها والقوة الأزلية المتصرفة في أصل مادتها ، كما أنهم متفقون على توقع خراب هذه الأرض والكواكب المرتبطة معها في هذا النظام الشمسي الجامع لها ، على أن أقرب الأسباب الموافقة لأصول العلم الثابتة أن تصيب الأرض قارعة من الأجرام السماوية فتبسها بسا ، حتى تكون هباء منبثا ، كما تشير إليه سورة القارعة والواقعة وغيرهما .

                          [ ص: 245 ] فأما بدؤه فقد حصل بالفعل ، وأما إعادته فدليلها أن القادر على البدء يكون قادرا على الإعادة بالطريق الأولى ، كما قال في سورة الروم : ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ) ( 30 : 27 ) الآية . ومن المسائل المتفق عليها عند علماء الكون في هذا العصر - وهي تقرب إلى العقول عقيدة البعث - أن هذه الأجساد الحية ينحل منها في كل وقت ما يتبخر في الهواء وما يموت في داخل الجسم ثم يخرج منه ، ويحل محل كل ما يزول ويندثر مواد حية جديدة حتى يفنى جسد كل حيوان ، فهو يزول في سنين قليلة ويتجدد غيره ، فالبدء والإعادة في كل جسد دائمان ما دام حيا ، وقد فصلنا مسألة البعث بالبيان العلمي في تفسير سورة الأعراف ( ص 417 - 427 ج 8 ط الهيئة ) ( ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط ( هذا تعليل للإعادة ، أي يعيده لأجل جزائهم ، والقسط : العدل ، وقال الراغب : النصيب من العدل ، أي ليجزيهم بعدله وهو عبارة عن إعطاء كل عامل حقه من الثواب الذي جعله الله لعمله ، بمعنى أنه لا يظلم منه شيئا كما قال في سورة الأنبياء : ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا ) ( 21 : 47 ) الآية . ولا يمنع ذلك أن يزيدهم ويضاعف لهم كما وعد في آيات أخرى منها قوله : ( فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ) ( 4 : 173 ) وقوله في هذه السورة : ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ( 26 ) فالحسنى هي الجزاء بالقسط المضاد للجور والظلم . والزيادة فضل منه عز وجل . وسيأتي فيها أيضا قوله : ( قضي بينهم بالقسط ) ( 10 : 47 ، 54 ) وقيل : إن المراد يجزيهم بما كانوا عليه من القيام بالقسط وهو الحق والعدل في الأمور كلها ، الذي هو مقتضى الإيمان في قوله تعالى : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) ( 57 : 25 ) وقوله : ( قل أمر ربي بالقسط ) ( 7 : 29 ) على أن القسط في الآيتين عام شامل لأمور الدين كلها ، وقيل : بل المراد منه الإيمان أو التوحيد المقابل لظلم الشرك في قوله تعالى : ( إن الشرك لظلم عظيم ) ( 31 : 13 ) والمتبادر الموافق لسائر الآيات الصريحة هو الأول ، ولا يصح إرادة الثاني إلا بالتبع للأول ، أو الجمع بين المعنيين على القول بأن كل ما يحتمله اللفظ من المعاني المشتركة فيه أو حقيقته ومجازه بمقتضى اللغة من غير مانع من الشرع يكون مرادا منه .

                          ( والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ) الحميم : الماء الحار أو الشديد الحرارة الذي يستحم به ، والعرق ، يقال : استحم الفرس إذا عرق ، والحمام الذي هو مكان الاستحمام من الأول أو من الثاني . والجملة بيان لجزاء الكافرين في مقابلة جزاء المؤمنين الصالحين على منهج القرآن في الجمع بينهما . والمعنى : أن الكافرين لهم من الجزاء شراب من ماء حميم يقطع أمعاءهم وعذاب شديد الألم ( وهذا من عطف العام على الخاص ) ونكتة هذا الخاص أن العرب الذين خوطبوا به أولا ونزل بلغتهم - ولا سيما عرب [ ص: 246 ] الحجاز - يشعرون بما لا يشعر غيرهم من الوعيد بشرب الماء الحميم والحرمان من الماء البارد - وإنما كان لهم هذا الجزاء بسبب ما كانوا يعملون من أعمال الكفر المستمرة إلى الموت ، كدعاء غير الله تعالى والنذر لغيره وذبح القرابين لغيره ، وسائر الأعمال السيئة التي يزينها لهم الكفر ويصد عنها الإيمان ، فقوله : ( والذين كفروا ) مقابل لقوله : الذين آمنوا وقوله : ( بما كانوا يكفرون ) مقابل لقوله : ( وعملوا الصالحات ) لأن الذي يتجدد من الكفر أعماله لا عقيدته . على أن العمل بمقتضى العقيدة هو أثرها ، يزيدها قوة ورسوخا واستمرارا ، وسيعاد ذكر جزاء الفريقين بعد آيتين بتفصيل آخر لعملهما .

                          ولعل نكتة اختلاف النظم أو الأسلوب - في جزاء الفريقين وتعليل الرجوع إليه تعالى هنا - هي إفادة أن المقصود بالذات من الرجوع إلى الله تعالى هو جزاء المؤمنين الصالحين ؛ لأنه هو الذي يكون به منتهى كمال الارتقاء البشري للذين زكوا أنفسهم في الدنيا بما يكون لهم في الجنة من غلبة سلطان الأرواح على الأجساد ، وجعلها تابعة لها في الجمع بين خصائص المادة والروح الذي هو حقيقة الإنسانية ، فيلقى الإنسان الكامل هنالك من النعيم المادي الخالي من الشوائب والتنغيص الذي عهده في الدنيا ، ومن النعيم الروحاني المعبر عنه برضوان الله الأكبر - كما تقدم في آية سورة التوبة : 72 - ما يتحقق به فضل الإنسانية الجامعة ، على الروحانية الخالصة ، وما أعده تعالى لصاحبها مما لا يعلم كنهه في هذه الحياة أحد ، كما قال تعالى في سورة الم السجدة ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) ( 32 : 17 ) وما فسرت به في الحديث القدسي : ( ( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ) ) رواه البخاري ، وأعلاه مقام رؤية الله عز وجل كما شرحناه في تفسير آية سورة الأعراف ( 7 : 143 ) وأدناه ما سيأتي قريبا في الآية التاسعة .

                          وأما جزاء الكافرين المفسدين الظالمين لأنفسهم وللناس ، على تدسيتهم وتدنيسهم لأنفسهم بالكفر والخطايا - وهي لها كأعراض الأمراض التي سببها مخالفة سنة الله في حفظ الأبدان وصحتها - فليس من المقاصد التي اقتضتها الحكمة الإلهية في خلق الإنسان ، ولكنها مقتضى العدل في المظالم والحقوق ، ومقتضى اطراد السنن الحكيمة في ارتباط الأسباب بالمسببات ، والعلل بالمعلولات ، فهو جزاء كما صرح به في آيات أخرى ، ولكنه ليس المقصود بالذات من الرجوع إلى الله عز وجل .

                          وقد سألني رجل من أذكياء الإنكليز : هل يليق بعظمة الله أن يعذب هذا الإنسان الضعيف على ذنوبه التي هي مقتضى ضعفه ؟ قلت إن الشرك بالله والكفر بنعمه ، واقتراف الخطايا المخالفة لشرائعه وللوجدان الفطري في الإنسان ، تدنس نفس فاعلها وتفسدها بما يجعلها غير أهل للنعيم الروحاني الخاص بالأنفس الزكية ، فيكون العقاب في الآخرة أثرا طبيعيا [ ص: 247 ] لهذا الفساد ، كما يكون المرض أثرا طبيعيا لمخالفة قوانين الصحة ووصايا الطبيب . فقال : إذا كان سبب العذاب من الداخل لا من الخارج فهو معقول .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية