الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            غزوة تبوك

            وقعت غزوة تبوك في سنة تسع من الهجرة في رجب منها، وذلك أن الله عز وجل لما نهى أن يقرب المشركون المسجد الحرام بعد عامهم هذا قالت قريش: لينقطعن عنا المتاجر والأسواق أيام الحج، فأنزل الله تعالى الأمر بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال الروم، وكان ذلك في حر شديد وضيق من الحال فجلى للناس أمرها ليأخذوا للأمر أهبته، ودعا من حوله من أحياء العرب للخروج معه، فخرج معه بشر كثير قرابة الثلاثين ألفا وتخلف عدد فعاتب الله من تخلف لغير عذر من المنافقين والمقصرين ووبخهم وفضحهم وأنزل فيهم قرآنا يتلى وبين أمرهم في سورة "براءة"، كما أمر الله فيها المؤمنين وحث على النفير خفافا وثقالا والجهاد بالنفس والمال.

            وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين في هذه الغزوة على الإنفاق في سبيل الله فبادر الأغنياء منهم متسابقين بالإنفاق كل بحسب قدرته وقد كان النصيب الأوفى من نصيب عثمان بن عفان رضي الله عنه فقد جهز قرابة ثلث الجيش حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: وهو على المنبر : "ما ضر عثمان بعدها" أو قال: " بعد اليوم "

            وعلى النقيض فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للجد بن قيس: " يا جد هل لك العام في جلاد بني الأصفر ؟ " فقال : يا رسول الله ، أو تأذن لي ولا تفتني ، فوالله لقد عرف قومي أنه ما رجل بأشد عجبا بالنساء مني ، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر . فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " قد أذنت لك ".

            وكان هذا شأن المنافقين فقال بعضهم: لا تنفروا في الحر، واجتمع بعضهم في سويلم اليهودي يثبطون الناس عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم من حرق عليهم البيت.

            هذا وقد تخلف جماعة من المؤمنين حبسهم العذر فقد جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجد ما يحملهم عليه فرجعوا وهم يبكون حزنا ألا يجدوا ما ينفقون.

            فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعمل على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري ويقال: استعمل سباع بن عرفطة، وخلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه على آل بيته صلى الله عليه وسلم وقال له النبي صلى الله عليه وسلم لما أرجف به المنافقون: : كذبوا ولكني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي ؟.

            وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى تبوك على ديار ثمود فنهى أن يشربوا من مائها أو أن يستعمل في طعام كما أمرهم ألا يدخلوا ديار المعذبين إلا باكين خشية أن يصيبهم ما أصابهم، وقد وقع في هذه الغزوة من الآيات الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم الكثير حيث نفد الماء واشتدت حاجة الناس إليه فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بعضه ووضع يده الشريفة فيه وظل الماء يخرج من بين يديه، كما أمر بسهم أن يوضع في بئر نفذ ماؤها إلا قليل فجاشت بالماء ودعا في موضع آخر فظللتهم سحابة فسكبت الماء فما جاوزت معسكرهم ولما قل الطعام دعا بفضل أزوادهم ووضع في نطع ودعا لهم بالبركة ثم أمرهم بالأخذ في أوعيتهم فأخذوا وملؤوها وأكلوا وشبعوا فضلا من الله ومنة وهكذا العديد من الآيات في هذه الغزوة المباركة.

            وقد حل النبي صلى الله عليه وسلم بتبوك وعسكر فيها فسمعت به العرب والروم فلم يلق كيدا وقفل راجعا صلى الله عليه وسلم.

            وقد كان تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم رجلان هما أبو خيثمة وأبو ذر فلم يطيقا صبرا حتى لحقا بالنبي صلى الله عليه وسلم.

            كما تخلف ثلاثة من أهل الإيمان كعب بن مالك وصاحبيه وقد أرجأ النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم إلى الله حتى نزل القرآن بقبول توبتهم بعد أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت.

            كما تخلف جماعة وربطوا أنفسهم بسواري المسجد وعزموا ألا يفكوا أنفسهم حتى يطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لن يطلقهم حتى يطلقهم الله تعالى بأمر من عنده سبحانه فأنزل الله تعالى: وآخرون اعترفوا بذنوبهم الآية.

            كما استهزأ جماعة من المنافقين في هذه الغزوة بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فنزل القرآن بفضحهم، وهم جماعة منهم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم والفتك به فأطلع الله سبحانه نبيه على ما هموا به وأخبره بأسمائهم وقد أسر النبي صلى الله عليه وسلم بهم لحذيفة رضي الله عنه.

            وفي هذه الغزوة صلى النبي صلى الله عليه وسلم مقتديا بعبد الرحمن بن عوف.

            ومما وقع في هذه الغزوة المباركة إرسال النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة، وقد جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد حقن خالد دمه وسلبه فصالحه النبي صلى الله عليه وسلم على الجزية، كما صالح ملك أيلة وأهل جرباء وأذرح.

            ومما وقع في هذه الغزوة موت ذي البجادين ودفن النبي صلى الله عليه وسلم له، وموت معاوية بن معاوية في المدينة ومعرفة النبي بموته وصلاته صلى الله عليه وسلم عليه.

            وقد خرج الناس عند رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة يستقبلونه بالبشر وقد أخبر الله نبيه بأمر مسجد الضرار والذي كان قد بناه المنافقون إرصادا لمن حارب الله ورسوله فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فهدم وحرق.

            وقد مات بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم في هذا العام رأس النفاق عبد الله بن أبي قبحه الله تعالى.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية