الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        [ ص: 533 ] الباب التاسع

                        من المقصد الرابع

                        في النسخ

                        وفيه سبع عشرة مسألة

                        المسألة الأولى

                        في حده

                        وهو في اللغة الإبطال والإزالة ، ومنه نسخت الشمس الظل ، والريح آثار القدم ، ومنه تناسخ القرون ، وعليه اقتصر العسكري ، ويطلق ويراد به النقل والتحويل ، ومنه نسخت الكتاب ، أي نقلته ومن قوله تعالى : إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ومنه تناسخ المواريث .

                        ثم اختلفوا ، هل هو حقيقة في المعنيين أم في أحدهما دون الآخر ، فحكى الصفي الهندي عن الأكثرين أنه حقيقة في الإزالة ، مجاز في النقل .

                        وقال القفال الشاشي : إنه حقيقة في النقل .

                        وقال القاضي أبو بكر الباقلاني ، والقاضي عبد الوهاب ، والغزالي : إنه حقيقة فيهما ، مشترك بينهما لفظا ; لاستعماله فيهما .

                        وقال ابن المنير في شرح البرهان : إنه مشترك بينهما اشتراكا معنويا ; لأن بين نسخ الشمس الظل ، ونسخ الكتاب مقدارا مشتركا ، وهو الرفع ، وهو في الظل بين ; لأنه زال بضده ، وفي نسخ الكتاب متعذر ، من حيث إن الكلام المنسوخ بالكتابة لم يكن مستفادا إلا من الأصل ، فكان للأصل بالإفادة خصوصية ، فإذا نسخت الأصل ارتفعت تلك الخصوصية ، وارتفاع الأصل والخصوصية سواء في مسمى الرفع .

                        [ ص: 534 ] وقيل : القدر المشترك بينهما هو التغيير ، وقد صرح به الجوهري .

                        قال في المحصول : فإن قيل : وصفهم الريح بأنها ناسخة للآثار ( والشمس بأنها ناسخة للظل مجاز ; لأن المزيل للآثار والظل ) هو الله تعالى ، وإذا كان ذلك مجازا امتنع الاستدلال به على كون اللفظ حقيقة في مدلوله ، ثم نعارض ما ذكرتموه ، ونقول : النسخ هو : النقل والتحويل ، ومنه نسخ الكتاب إلى كتاب آخر ، كأنك تنقله إليه ، أو تنقل حكايته ، ومنه تناسخ الأرواح ، وتناسخ القرون ، قرنا بعد قرن ، وتناسخ المواريث ، إنما هو التحول من واحد إلى آخر ، بدلا عن الأول ، فوجب أن يكون اللفظ حقيقة في النقل ، ويلزم أن لا يكون حقيقة في الإزالة ، دفعا للاشتراك ، وعليكم الترجيح .

                        الجواب عن الأول من وجهين .

                        ( أحدهما ) : أنه لا يمتنع أن يكون الله تعالى هو الناسخ لذلك ، من حيث فعل الشمس والريح المؤثرين ( في تلك الإزالة ويكونان أيضا ناسخين ; لكونهما مختصين بذلك التأثير . وثانيهما أن أهل اللغة إنما أخطئوا في إضافة النسخ إلى الشمس والريح ) . فهب أنه كذلك ، لكن متمسكنا إطلاقهم لفظ النسخ على الإزالة ، لا إسنادهم هذا الفعل إلى الريح والشمس .

                        وعن الثاني : أن النقل أخص من الزوال ; لأنه حيث وجد النقل فقد عدمت صفة حصلت عقيبها صفة أخرى ، فإذا مطلق العدم أعم من عدم تحصل شيء آخر عقيبه ، وإذا اللفظ بين العام والخاص ، كان جعله حقيقة في العام أولى من جعله حقيقة في الخاص ، على ما تقدم تقريره في كتاب اللغات . انتهى .

                        وأما في الاصطلاح : فقال جماعة منهم القاضي أبو بكر الباقلاني ، والصيرفي والشيخ أبو إسحاق الشيرازي ، والغزالي ، والآمدي ، وابن الأنباري وغيرهم : هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع [ ص: 535 ] تراخيه عنه ، وإنما آثروا الخطاب على النص ، ليكون شاملا للفظ ، والفحوى ، والمفهوم ، فإنه يجوز نسخ جميع ذلك .

                        وقالوا : الدال على ارتفاع الحكم ; ليتناول الأمر والنهي والخبر وجميع أنواع الحكم .

                        وقالوا بالخطاب المتقدم ; ليخرج إيجاب العبادات ابتداء فإنه يزيل حكم العقل ببراءة الذمة ، ولا يسمى نسخا ; لأنه لم يزل حكم خطاب .

                        وقالوا : على وجه لولاه لكان ثابتا ; لأن حقيقة النسخ الرفع ، وهو إنما يكون رافعا لو كان المتقدم بحيث لولا طريانه لبقي .

                        وقالوا مع تراخيه عنه ; لأنه لو اتصل لكان بيانا لمدة العبادة لا نسخا . وقد اعترض على هذا الحد بوجوه :

                        ( الأول ) : أن النسخ هو نفس الارتفاع ، والخطاب إنما هو دال على الارتفاع ، وفرق بين الرافع وبين نفس الارتفاع .

                        ( الثاني ) : أن التقييد بالخطاب خطأ ; لأن النسخ قد يكون فعلا ، كما يكون قولا .

                        ( الثالث ) : أن الأمة إذا اختلفت على قولين ، ثم أجمعت بعد ذلك على أحدهما ، فهذا الإجماع خطاب ، مع أن الإجماع لا ينسخ به .

                        ( الرابع ) : أن الحكم الأول قد يثبت بفعل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وليس بخطاب .

                        قال الرازي في المحصول : والأولى أن يقال : الناسخ طريق شرعي ، يدل على أن مثل الحكم الذي كان ثابتا بطريق شرعي لا يوجد بعد ذلك ، مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتا .

                        وفيه أن قوله مثل الحكم ( الذي إلخ ) يشمل ما كان مماثلا له في وجه من الوجوه ، فلا يتم النسخ لحكم إلا برفع جميع المماثلات له في شيء مما يصح عنده إطلاق المماثلات له في شيء مما يصح عنده إطلاق المماثلة عليه .

                        [ ص: 536 ] وقال الزركشي : المختار في حده اصطلاحا : أنه رفع الحكم الشرعي بخطاب .

                        وفيه : أن الناسخ قد يكون فعلا لا خطابا ، وفي أيضا أنه أهمل تقييده بالتراخي ، ولا يكون نسخ إلا به .

                        وقال ابن الحاجب في مختصر المنتهى : إنه في الاصطلاح : رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر .

                        واعترض عليه : بأن الحكم راجع إلى كلام الله سبحانه ، وهو قديم ، والقديم لا يرفع ولا يزول .

                        وأجيب : بأن المرفوع تعلق الحكم بالمكلف لا ذاته ، ولا تعلقه الذاتي .

                        وقال جماعة : هو في الاصطلاح : الخطاب الدال على انتهاء الحكم الشرعي ، مع التأخير عن موارده . ويرد على قيد الخطاب ما تقدم ، فالأولى أن يقال : هو رفع حكم شرعي بمثله مع تراخيه عنه .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية