الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوجه الثالث والعشرون: أن يقال: قولكم ليس فيه شوق إلى شيء ولا منافرة لشيء: أتريدون به أنه ليس فيه حب لشيء أصلا: لا لنفسه ولا لغيره؟ ولا بغض لشيء من الأشياء؟ وسميتم الحب الباعث على الفعل شوقا؟ أم تريدون به ليس فيه شوق إلى شيء مستغن عنه كما قلتموه في الفلك؟

فإن كان مرادكم الثاني، لم يضر هذا، مع أنكم لم تقيموا على هذا دليلا.

ولو قيل لكم: بل يجوز أن يكون مشتاقا إلى غيره، وغيره مشتاق إليه -لم يمكنكم الجواب؛ لأنكم إن قلتم: إن الفلك ممكن بنفسه، لزم أن يكون الأول فاعلا له، ولزم أن يكون كالفلك، وهو عندكم لا يفعل ولا يؤثر، وإن كان الفلك واجبا كان الواجب موصوفا بالشوق إلى غيره.

وأيضا فأنتم لم تذكروا دليلا على ثبوته، فضلا عن غناه؛ إذ دليلكم في ثبوته مبني على أن المتحرك بالإرادة لا تكون حركته إلا عن حب لغيره، وهذا لم تقيموا عليه دليلا، وهو لا يتم حتى يمتنع كون الأول فاعلا بالإرادة، فإذا: لا يمكنكم ثبوته حتى يمتنع كونه فاعلا بالإرادة، ولا يمتنع كونه فاعلا بالإرادة حتى يعلم ثبوته، فإذا لا يثبت لا هذا ولا هذا.

وإن كان مرادكم الأول، فيقال لكم: من أين علمتم أنه لا يكون محبا لنفسه ولا لغيره؟

[ ص: 315 ] فإن قلتم: إن المحب لغيره ناقص يحتاج إلى الغير. كان جوابكم من أربعة أوجه:

أحدها: أن يقال: لم لا يجوز أن يكون محبا لنفسه، ثم محبته لغيره تبعا؟ كما تقولون في حب الفلك وإرادته بالقصد الأول والقصد الثاني.

الثاني: أن يقال: فلم لا يجوز أن يكون محبا لغيره، الذي هو مفعول مصنوع له؟ وإذا كان مريدا كما هو مفعول مصنوع له، وهو ممكن، لم يكن في ذلك إرادته ومحبته إلا لمفعولاته ومبتدعاته، التي هي فقيرة إليه من كل وجه، فليس في هذا افتقار إلى شيء هو مستغن عنه بوجه من الوجوه. ومعلوم أن هذا خير من قولكم: إن الفلك لا يحتاج إليه إلا من جهة كونه محبوبا، فإن ذلك في إثبات فقر الفلك إليه من كل وجه، وهذا أبلغ في الكمال.

الثالث: أن يقال: ولو فرض محبا لغيره مريدا لغيره، وذلك الغير أيضا محتاج إليه؛ لكونه لا يقوم إلا به، كان غاية ما في هذا أن يكون قوام كل منهما بالآخر. ومعلوم أن هذا وإن كان المسلمون ينزهون الله عنه، فهو خير من قولكم المتضمن أن الفلك ليس له مبدع فاعل، مع كونه محتاجا إلى محبوبه؛ لأن هذا يتضمن شيئين، كل منهما فاعل له، وأحدهما محب للآخر، أقرب إلى العدل والإمكان، إن كان ذلك ممكنا، وإلا فهو أقرب إلى الامتناع؛ لأن كلا القولين يتضمن إثبات شيئين لا فاعل لهما، وأحدهما يتضمن أن المحب أحدهما والآخر محبوب، والقول الثاني يتضمن أن كلاهما محب محبوب. [ ص: 316 ]

الوجه الرابع: أن يقال: المحب المريد لأمور منفصلة عنه، إذا كان قادرا عليها، وهو يفعلها بحسب محبته وإرادته من غير مانع. فلم قلتم: إن هذا نقص؟ أو ليس الموصوف بهذا أكمل من الذي لا يحب شيئا ولا يريده ولا يقدر عليه؟ وإذا شبه الأول بالحيوان، كان الثاني مشبها بالجماد، والجماد أنقص.

التالي السابق


الخدمات العلمية