الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : وأيوب الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج الحاكم من طريق سمرة عن كعب قال : كان أيوب بن أموص نبي الله الصابر طويلا، جعد الشعر واسع العينين، حسن الخلق، وكان على جبينه مكتوب : المبتلى الصابر وكان قصير العنق، عريض الصدر غليظ الساقين والساعدين، كان يعطي الأرامل ويكسوهم، جاهدا ناصحا لله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحاكم عن وهب قال : أيوب بن أموص بن رزاح بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن سعد ، عن الكلبي قال : أول نبي بعث إدريس، ثم نوح ثم إبراهيم ثم إسماعيل وإسحاق، ثم يعقوب، ثم يوسف، ثم لوط، ثم هود، ثم [ ص: 334 ] صالح، ثم شعيب، ثم موسى وهارون، ثم إلياس، ثم اليسع، ثم يونس، ثم أيوب .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن عساكر عن وهب قال : كان أيوب أعبد أهل زمانه وأكثرهم مالا وكان لا يشبع حتى يشبع الجائع، وكان لا يكتسي حتى يكسو العاري، وكان إبليس قد أعياه أمر أيوب ليغويه، فلا يقدر ، وكان عبدا معصوما .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد في " الزهد "، والخطيب في " المتفق والمفترق " ، وابن عساكر عن وهب أنه سئل : ما كانت شريعة قوم أيوب؟ قال : التوحيد وإصلاح ذات البين ، وإذا كانت لأحدهم حاجة خر لله ساجدا ثم طلب حاجته ، قيل : فما كان ماله؟ قال : كان له ثلاثة آلاف فدان، مع كل فدان عبد، مع كل عبد وليدة، ومع كل وليدة أتان وأربعة عشر ألف شاة، ولم يبت ليلة له وصيف وراء بابه، ولم يأكل طعامه إلا ومعه مسكين .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 335 ] وأخرج البيهقي في " الشعب " عن سفيان الثوري قال : ما أصاب إبليس من أيوب في مرضه إلا الأنين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن عساكر ، عن عقبة بن عامر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : قال الله لأيوب : تدري ما جرمك إلي حتى ابتليتك؟ فقال : لا يا رب ، قال : لأنك دخلت على فرعون فداهنت عنده في كلمتين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن عساكر ، من طريق جويبر، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : إنما كان ذنب أيوب أنه استعان به مسكين على ظلم يدرؤه عنه فلم يعنه ولم يأمر بمعروف وينه الظالم عن ظلم المسكين؛ فابتلاه الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن عساكر عن الليث بن سعد قال : كان السبب الذي ابتلي فيه أيوب أنه دخل أهل قريته على ملكهم - وهو جبار من الجبابرة - وذكر بعض ما كان ظلمه الناس فكلموه فأبلغوا في كلامه، ورفق أيوب في كلامه له مخافة منه لزرعه، فقال الله : أتقيت عبدا من عبادي من أجل زرعك! فأنزل الله به ما أنزل من البلاء .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن عساكر عن أبي إدريس الخولاني قال : أجدب الشام فكتب فرعون إلى أيوب : أن هلم إلينا، فإن لك عندنا سعة ، فأقبل بخيله وماشيته وبنيه، [ ص: 336 ] فأقطعهم فدخل شعيب فقال : يا فرعون : أما تخاف أن يغضب غضبة فيغضب لغضبه أهل السماوات والأرض والجبال والبحار؟ فسكت أيوب، فلما خرجا من عنده أوحى الله إلى أيوب : يا أيوب أوسكت عن فرعون لذهابك إلى أرضه؟ استعد للبلاء ، قال : فديني؟ قال : أسلمه لك ، قال : فما أبالي .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم ، وابن عساكر عن يزيد بن ميسرة قال : لما ابتلى الله أيوب بذهاب المال والأهل والولد، فلم يبق له شيء، أحسن الذكر والحمد لله رب العالمين ، ثم قال : أحمدك رب الذي أحسنت إلي ، قد أعطيتني المال والولد فلم يبق من قلبي شعبة إلا قد دخلها ذلك، فأخذت ذلك كله مني وفرغت قلبي، فليس يحول بيني وبينك شيء، لا يعلم عدوي إبليس الذي صنعت إلي حسدني، فلقي إبليس من هذا شيئا منكرا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد في " الزهد " ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وأبو نعيم في " الحلية " عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال : كان لأيوب أخوان، فجاءا يوما فلم يستطيعا أن يدنوا منه من [ ص: 337 ] ريحه، فقاما من بعيد، فقال أحدهما للآخر : لو كان الله علم من أيوب خيرا ما ابتلاه بهذا، فجزع أيوب من قولهما جزعا لم يجزع من شيء قط قال : اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعانا وأنا أعلم مكان جائع فصدقني ، فصدق من السماء وهما يسمعان، ثم قال : اللهم إن كنت تعلم أني لم ألبس قميصا قط وأنا أعلم مكان عار فصدقني ، فصدق من السماء وهما يسمعان، ثم خر ساجدا ثم قال : اللهم بعزتك لا أرفع رأسي حتى تكشف عني ، فما رفع رأسه حتى كشف الله عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن عساكر عن الحسن قال : ضرب أيوب بالبلاء ثم بالبلاء بعد البلاء؛ بذهاب الأهل والمال، ثم ابتلي في بدنه ثم ابتلي حتى قذف به في بعض مزابل بني إسرائيل، فما يعلم أيوب دعا الله يوما أن يكشف ما به ليس إلا صبرا واحتسابا حتى مر به رجلان فقال أحدهما لصاحبه : لو كان لله في هذا حاجة ما بلغ به هذا كله ، فسمع أيوب فشق عليه فقال : رب : مسني الضر ثم رد ذلك إلى ربه فقال : وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم قال : وآتيناه أهله في الدنيا ومثلهم معهم في الآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد [ ص: 338 ] في قوله : وآتيناه أهله ومثلهم معهم قال : قيل له : يا أيوب إن أهلك لك في الجنة، فإن شئت آتيناك بهم، وإن شئت تركناهم لك في الجنة وعوضناك مثلهم . قال : لا بل اتركهم لي في الجنة، فتركوا له في الجنة وعوض مثلهم في الدنيا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن نوف البكالي في قوله : وآتيناه أهله ومثلهم معهم قال : أوتي أجرهم في الآخرة، وأعطي مثلهم في الدنيا ، فحدث بذلك مطرف، فقال : ما عرفت وجهها قبل اليوم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر والطبراني ، عن الضحاك قال : بلغ ابن مسعود أن مروان قال في هذه الآية : وآتيناه أهله ومثلهم معهم قال : أوتي أهلا غير أهله . فقال ابن مسعود : بل أوتي أهله بأعيانهم ومثلهم معهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر عن الحسن في قوله : وآتيناه أهله ومثلهم معهم قال : لم يكونوا ماتوا ولكنهم غيبوا عنه، فأتاه أهله : ومثلهم معهم في الآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن جريج في قوله : وآتيناه أهله ومثلهم معهم [ ص: 339 ] قال : أحياهم بأعيانهم وزاد إليهم مثلهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، عن الحسن ، وقتادة في قوله : وآتيناه أهله ومثلهم معهم قال : أحيا الله له أهله بأعيانهم وزاده إليهم مثلهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن الحسن : ومثلهم معهم قال : من نسلهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد في " الزهد " عن الحسن قال : ما كان بقي من أيوب عليه السلام إلا عيناه وقلبه ولسانه، فكانت الدواب تختلف في جسده، ومكث في الكناسة سبع سنين وأياما .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد عن نوف البكالي قال : مر نفر من بني إسرائيل بأيوب فقالوا : ما أصابه ما أصابه إلا بذنب عظيم أصابه ، فسمعها أيوب، فعند ذلك قال : مسني الضر وأنت أرحم الراحمين وكان قبل ذلك لا يدعو .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن الحسن قال : لقد مكث أيوب مطروحا على كناسة سبع سنين وأشهرا، ما يسأل الله أن يكشف ما به، وما على وجه الأرض خلق أكرم من أيوب، فيزعمون أن بعض الناس قال : لو كان لرب هذا فيه حاجة ما صنع به هذا ، فعند ذلك دعا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن وهب بن منبه قال : لم يكن بأيوب الأكلة إنما كان [ ص: 340 ] يخرج منه مثل ثدي النساء ثم يتفقأ .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين قال : إنه لما مسه الضر أنساه الله الدعاء أن يدعوه فيكشف ما به من ضر، غير أنه كان يذكر الله كثيرا، ولا يزيده البلاء في الله إلا رغبة وحسن إيقان، فلما انتهى الأجل وقضى الله أنه كاشف ما به من ضر، أذن له في الدعاء ويسره له، وكان قبل ذلك يقول تبارك وتعالى : لا ينبغي لعبدي أيوب أن يدعوني ثم لا أستجيب له ، فلما دعا استجاب له، وأبدله بكل شيء ذهب له ضعفين، رد الله أهله ومثلهم معهم وأثنى عليه فقال : إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب [ ص : 44 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن ليث قال : أرسل مجاهد رجلا يقال له : قاسم إلى عكرمة يسأله عن قول الله لأيوب : وآتيناه أهله ومثلهم معهم فقال : قيل له : إن أهلك لك في الآخرة، فإن شئت عجلناهم لك في الدنيا، وإن شئت كانوا لك في الآخرة، وآتيناك مثلهم في الدنيا ، فقال : يكونون لي في الآخرة وأوتى مثلهم في الدنيا ، فرجع إلى مجاهد فقال : أصاب .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي في قوله : رحمة من عندنا وذكرى للعابدين وقوله : رحمة منا وذكرى لأولي الألباب [ ص : 43 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 341 ] قال : إنما هو من أصابه بلاء فذكر ما أصاب أيوب فليقل : إنه قد أصاب من هو خير مني؛ نبي من الأنبياء .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن الحسن قال : بقي أيوب على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا تختلف فيه الدواب .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن الحسن قال : إن أيوب آتاه الله تعالى مالا وولدا، وأوسع عليه؛ فله من الشاء والبقر والغنم والإبل ، وإن عدو الله إبليس قيل له : هل تقدر أن تفتن أيوب؟ قال : رب، إن أيوب أصبح في دنيا من مال وولد، فلا يستطيع ألا يشكرك فسلطني على ماله وولده، فسترى كيف يطيعني ويعصيك ، فسلط على ماله وولده، فكان يأتي الماشية من ماله من الغنم فيحرقها بالنيران، ثم يأتي أيوب وهو يصلي متشبها براعي الغنم فيقول : يا أيوب تصلي لرب ما ترك الله لك من ماشيتك شيئا من الغنم إلا أحرقها بالنيران ، وكنت ناحية فجئت لأخبرك . فيقول أيوب : اللهم أنت أعطيت وأنت أخذت مهما يبق شيء أحمدك على حسن بلائك ، فلا يقدر منه على شيء مما يريد .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يأتي ماشيته من البقر فيحرقها بالنيران ، ثم يأتي أيوب فيقول له ذلك ، [ ص: 342 ] ويرد عليه أيوب مثل ذلك ، وكذلك فعل بالإبل، حتى ما ترك له ماشية، حتى هدم البيت على ولده، فقال : يا أيوب أرسل الله على ولدك من هدم عليهم البيوت حتى هلكوا! فيقول أيوب مثل ذلك ، وقال : رب هذا حين أحسنت إلي الإحسان كله، قد كنت قبل اليوم يشغلني حب المال بالنهار، ويشغلني حب الولد بالليل شفقة عليهم، فالآن أفرغ سمعي لك وبصري وليلي ونهاري بالذكر والحمد والتقديس والتهليل ، فينصرف عدو الله من عنده لم يصب منه شيئا مما يريد .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم إن الله تعالى قال : كيف رأيت أيوب ؟ ، قال إبليس : أيوب قد علم أنك سترد عليه ماله وولده , ولكن سلطني على جسده ، فإن أصابه الضر فيه أطاعني وعصاك ، فسلط على جسده ، فأتاه فنفخ فيه نفخة أقرح من لدن قرنه إلى قدمه ، قال : فأصابه البلاء بعد البلاء ، حتى حمل فوضع على مزبلة كناسة لبني إسرائيل ، فلم يبق له مال ولا ولد ولا صديق ولا أحد يقربه غير رحمة ، صبرت عليه، تصدق ، وتأتيه بطعام ، وتحمد الله معه إذا حمده ، وأيوب على ذلك لا يفتر من ذكر الله ، والتحميد والثناء على الله , والصبر على ما ابتلاه الله .

                                                                                                                                                                                                                                      فصرخ إبليس صرخة جمع فيها جنوده من أقطار الأرضين جزعا من صبر أيوب , فاجتمعوا إليه ، وقالوا له : اجتمعنا ، ما حزبك ؟ ما أعياك ؟ ، قال : [ ص: 343 ] أعياني هذا العبد الذي سألت ربي أن يسلطني على ماله وولده , فلم أدع له مالا ولا ولدا ، فلم يزدد بذلك إلا صبرا وثناء على الله وتحميدا له ، ثم سلطت على جسده فتركته قرحة ملقاة على كناسة بني إسرائيل ، لا يقربه إلا امرأته ، فقد افتضحت بربي ، فاستعنت بكم لتعينوني عليه ، فقالوا له : أين مكرك ؟ أين علمك الذي أهلكت به من مضى ؟ ، قال : بطل ذلك كله في أيوب ، فأشيروا علي ، قالوا : نشير عليك ، أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة ، من أين أتيته ؟ ، قال : من قبل امرأته ، قالوا : فشأنك بأيوب من قبل امرأته ، فإنه لا يستطيع أن يعصيها , وليس أحد يقربه غيرها ، قال : أصبتم .

                                                                                                                                                                                                                                      فانطلق حتى أتى امرأته وهي تصدق ، فتمثل لها في صورة رجل ، فقال : أين بعلك يا أمة الله ؟ قالت : ها هو ذاك يحك قروحه , وتتردد الدود في جسده ، فلما سمعها طمع أن تكون كلمة جزع ، فوضع في صدرها فوسوس إليها , فذكرها ما كانت فيه من النعم والمال والدواب ، وذكرها جمال أيوب وشبابه ، وما هو فيه من الضر ، وأن ذلك لا ينقطع عنهم أبدا ؛ فصرخت , فلما صرخت , علم أن قد صرخت وجزعت ، أتاها بسخلة ، فقال : ليذبح هذا إلي أيوب ويبرأ , قال : فجاءت تصرخ : يا أيوب ، يا أيوب ، حتى متى يعذبك ربك ؟ ألا يرحمك ؟ أين المال ؟ أين الشباب ؟ أين الولد ؟ أين الصديق ؟ أين لونك الحسن وقد تغير وصار مثل الرماد ؟ أين جسمك الحسن الذي قد بلي وتردد [ ص: 344 ] فيه الدواب ؟ اذبح هذه السخلة واسترح .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أيوب : أتاك عدو الله فنفخ فيك , فوجد فيك رفقا وأجبته ، ويلك ، أرأيت ما تبكين عليه مما تذكرين مما كنا فيه من المال والولد والصحة والشباب ؟ من أعطانيه ؟ قالت : الله . قال : فكم متعنا به ؟ قالت : ثمانين سنة . قال : فمذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء الذي ابتلانا به ؟ قالت : منذ سبع سنين وأشهر . قال : ويلك ، والله ما عدلت ولا أنصفت ربك ، ألا صبرت حتى نكون في هذا البلاء الذي ابتلانا ربنا به ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة ؟ والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة ، حيث أمرتيني أن أذبح لغير الله ، طعامك وشرابك الذي أتيتيني به علي حرام , وأن أذوق شيئا مما تأتيني به بعد إذ قلت لي هذا , فاغربي عني فلا أراك ، فطردها فذهبت ، فقال الشيطان : هذا قد وطن نفسه ثمانين سنة على هذا البلاء الذي هو فيه ، فباء بالغلبة ورفضه . ونظر أيوب إلى امرأته قد طردها ، وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق ، ومر به رجلان وهو على تلك الحال - ولا والله ما على ظهر الأرض يومئذ أكرم على الله من أيوب - فقال أحد الرجلين لصاحبه : لو كان لله في هذا حاجة ما بلغ به هذا . فلم يسمع أيوب شيئا كان أشد عليه من هذه الكلمة " . فقال : رب : مسني الضر ثم رد ذلك إلى الله فقال : وأنت أرحم الراحمين فقيل له : اركض برجلك هذا مغتسل بارد [ ص : 42 ] فركض برجله فنبعت عين ماء، فاغتسل منها فلم يبق عليه من دائه شيء ظاهر إلا سقط، فأذهب الله كل ألم [ ص: 345 ] وكل سقم وعاد إليه شبابه وجماله أحسن ما كان، ثم ضرب برجله فنبعت عين أخرى، فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلا خرج ، فقام صحيحا، وكسي حلة، فجعل يلتفت فلا يرى شيئا مما كان له من أهل ومال إلا وقد أضعفه الله له، حتى ذكر لنا أن الماء الذي اغتسل به تطاير على صدره جرادا من ذهب، فجعل يضمه بيده، فأوحى الله إليه : يا أيوب ألم أغنك؟ قال : بلى، ولكنها بركتك فمن يشبع منها ؟ فخرج حتى جلس على مكان مشرف .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم إن امرأته قالت : أرأيت إن كان طردني، إلى من أكله؟ أدعه يموت جوعا، أو يضيع فتأكله السباع؟ لأرجعن إليه . فرجعت فلا كناسة ترى ولا تلك الحال التي كانت، وإذا الأمور قد تغيرت، فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي، وذلك بعين أيوب، وهابت صاحب الحلة أن تأتيه فتسأل عنه . فأرسل إليها أيوب فدعاها فقال : ما تريدين يا أمة الله؟ فبكت وقالت : أردت ذلك المبتلى الذي كان منبوذا على الكناسة، لا أدري أضاع أم ما فعل . قال لها أيوب : ما كان منك؟ فبكت وقالت : بعلي، فهل رأيته؟ قال : وهل تعرفينه إذا رأيته؟ قالت : وهل يخفى على أحد رآه؟ ثم جعلت تنظر إليه وهي تهابه، ثم قالت : أما إنه كان أشبه خلق الله بك إذ كان صحيحا ، قال : فإني أيوب الذي [ ص: 346 ] أمرتيني أن أذبح للشيطان، وإني أطعت الله وعصيت الشيطان، ودعوت الله فرد علي ما ترين ، ثم إن الله رحمها بصبرها معه على البلاء فأمره- تخفيفا عنها- أن يأخذ جماعة من الشجر فيضربها ضربة واحدة تخفيفا عنها بصبرها معه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن عساكر عن وهب قال : لم يكن الذي أصاب أيوب الجذام، ولكنه أصابه أشد منه، كان يخرج في جسده مثل ثدي المرأة ثم يتفقأ .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو نعيم ، وابن عساكر ، عن الحسن قال : إن كانت الدودة لتقع من جسد أيوب، فيأخذها إلى مكانها ويقول : كلي من رزق الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحاكم ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ، وابن عساكر ، عن قتادة قال : ابتلي أيوب سبع سنين ملقى على كناسة بيت المقدس .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، والحاكم ، والبيهقي في " الشعب " ، وابن عساكر ، عن ابن عباس ، أن امرأة أيوب قالت له : والله قد نزل بي من الجهد والفاقة ما أن بعت قرني برغيف فأطعمتك، وإنك رجل مجاب الدعوة فادع الله أن يشفيك ، قال : ويحك ، كنا في النعماء سبعين سنة، فنحن في البلاء سبع [ ص: 347 ] سنين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي الدنيا وعبد الله بن أحمد في زوائد " الزهد " ، وابن عساكر ، عن طلحة بن مطرف قال : قال إبليس : ما أصبت من أيوب شيئا قط أفرح به إلا أني كنت إذا سمعت أنينه علمت أني أوجعته .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج إسحاق بن بشر ، وابن عساكر عن مجاهد قال : أن أول من أصابه الجدري أيوب عليه السلام .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي الدنيا ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والروياني وابن حبان ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه، كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه ذات يوم : تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد ، قال : وما ذاك؟ قال : منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف عنه ما به ، فلما راحا إلى أيوب لم يصبر الرجل حتى ذكر له ذلك، فقال أيوب : لا أدري ما تقول، غير أن الله يعلم أني كنت أمر بالرجلين يتنازعان يذكران الله، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما؛ كراهية أن يذكر الله [ ص: 348 ] إلا في حق ، وكان يخرج لحاجته، فإذا قضى حاجته أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ، فلما كان ذات يوم أبطأ عليها، فأوحى الله إلى أيوب في مكانه أن : اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فاستبطأته فتلقته وأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو أحسن ما كان، فلما رأته قالت : أي بارك الله فيك، هل رأيت نبي الله المبتلى؟ والله على ذاك ما رأيت رجلا أشبه به منك إذ كان صحيحا ! قال : فإني أنا هو ، قال : وكان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير، فبعث الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه ، وابن عساكر ، من طريق جويبر عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله : ووهبنا له أهله ومثلهم معهم قال : رد الله امرأته وزاد في شبابها حتى ولدت له ستة وعشرين ذكرا، وأهبط الله إليه ملكا فقال : يا أيوب إن الله يقرئك السلام بصبرك على البلاء، فاخرج إلى أندرك ، فبعث الله سحابة حمراء فهبطت عليه بجراد الذهب والملك قائم معه، فكانت الجرادة تذهب فيتبعها حتى يردها في أندره ، قال [ ص: 349 ] الملك : يا أيوب أما تشبع من الداخل حتى تتبع الخارج؟ فقال : إن هذه بركة من بركات ربي ولست أشبع منها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد ، والبخاري ، والنسائي ، والبيهقي في "الأسماء والصفات" عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : بينا أيوب يغتسل عريانا خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب يحثي في ثوبه، فناداه ربه : يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال : بلى وعزتك ولكن لا غنى لي عن بركتك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لما عافى الله أيوب أمطر عليه جرادا من ذهب، فجعل يأخذه بيده ويجعله في ثوبه، فقيل له : يا أيوب أما تشبع؟ قال : ومن يشبع من فضلك ورحمتك؟

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج إسحاق بن بشر ، وابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك ، عن ابن عباس أن أيوب عاش بعد ذلك سبعين سنة بأرض الروم على دين الحنيفية، وعلى ذلك مات، وتغيروا بعد ذلك وغيروا دين إبراهيم كما غيره من كان قبلهم .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 350 ] وأخرج الحاكم عن وهب قال : عاش أيوب ثلاثا وتسعين سنة، وأوصى عند موته إلى ابنه حومل، وقد بعث الله بعده ابنه بشر بن أيوب نبيا وسماه ذا الكفل، وكان مقيما بالشام عمره حتى مات ابن خمس وسبعين سنة، وإن بشرا أوصى إلى ابنه عبدان، ثم بعث الله بعدهم شعيبا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن عساكر عن أبي عبد الله الجدلي قال : كان أيوب عليه السلام يقول : اللهم إني أعوذ بك من جار عينه تراني وقلبه يرعاني، إن رأى حسنة أطفأها وإن رأى سيئة أذاعها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد في " الزهد " ، والبيهقي في " شعب الإيمان " عن مجاهد قال : يؤتى بثلاثة يوم القيامة : بالغني والمريض والعبد المملوك، فيقال للغني : ما منعك من عبادتي؟ فيقول : يا رب أكثرت لي من المال فطغيت ، فيؤتى بسليمان في ملكه فيقول : أنت كنت أشد شغلا من هذا؟ فيقول : لا، بل هذا ، قال : فإن هذا لم يمنعه ذلك أن عبدني ، ثم يؤتى بالمريض فيقول : ما منعك من عبادتي؟ فيقول : شغلت على جسدي، فيؤتى بأيوب في ضره فيقول : أنت كنت أشد ضرا من هذا؟ قال : لا، بل هذا ، قال : فإن هذا لم يمنعه ذلك أن عبدني ، ثم يؤتى بالمملوك فيقول : ما منعك من عبادتي؟ فيقول : يا رب جعلت علي أربابا يملكونني ، فيؤتى بيوسف في عبوديته فيقول : أنت [ ص: 351 ] كنت أشد عبودية أم هذا؟ قال : لا بل هذا، قال : فإن هذا لم يمنعه أن عبدني .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية