الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الطرف الثالث في كيفية المماثلة :

                                                                                                                                                                        وهي مشترطة في استيفاء القصاص ، فإذا قتله قتلا موحيا بمحدد ، كسيف وغيره ، أو بمثقل ، أو خنقه ، أو غرقه في ماء ، أو ألقاه في نار ، أو جوعه حتى مات ، أو رماه من شاهق ، فللولي أن يقتله بمثل ما قتل به .

                                                                                                                                                                        ويستثنى عن هذه القاعدة ثلاث صور .

                                                                                                                                                                        إحداها : إذا قتله بسحر ، اقتص منه بالسيف ، لأن عمل السحر حرام ولا ينضبط .

                                                                                                                                                                        الثانية : إذا قتله باللواط ، وهو مما يقتل غالبا ، بأن لاط بصغير ، فالصحيح أنه يقتل بالسيف كمسألة السحر .

                                                                                                                                                                        والثاني : تدس في دبره خشبة قريبة من آلته ويقتل بها ، قاله أبو إسحاق والإصطخري ، قال المتولي : هذا إن توقع موته بالخشبة ، وإلا فالسيف .

                                                                                                                                                                        والثالث : لا يجب به القصاص ، لأنه لا يقصد به الإهلاك ، فيكون القتل به خطأ ، أو شبه عمد ، وهو غريب ضعيف .

                                                                                                                                                                        الثالثة : إذا أوجره خمرا حتى مات ، فثلاثة أوجه .

                                                                                                                                                                        الصحيح : أنه يقتل بالسيف ، والثاني : يوجر مائعا ، كخل أو ماء أو شيء مر ، والثالث : لا قصاص ، لأنه لا يقصد به القتل وهو غريب ضعيف .

                                                                                                                                                                        ولو سقاه بولا ، فكالخمر ، وقيل : يسقى بولا ، لأنه يباح عند الضرورة بخلاف الخمر ، ولو أوجره ماء نجسا ، أوجر ماء طاهرا .

                                                                                                                                                                        فرع .

                                                                                                                                                                        كما تراعى المماثلة في طريق القتل ، تراعى في الكيفية والمقدار ، ففي التجويع يحبس مثل تلك المدة ويمنع الطعام ، وفي الإلقاء في الماء والنار يلقى في ماء ونار مثلهما ، ويترك تلك المدة ، وتشد قوائمه عند الإلقاء [ ص: 230 ] في الماء إن كان يحسن السباحة ، وفي التخنيق يخنق بمثل ما خنق مثل تلك المدة ، وفي الإلقاء من الشاهق يلقى من مثله وتراعى صلابة الموضع ، وفي الضرب بالمثقل يراعى الحجم وعدد الضربات .

                                                                                                                                                                        وإذا تعذر الوقوف على قدر الحجر ، أو قدر النار ، أو عدد الضربات فعن القفال أنه يقتل بالسيف ، وعن بعضهم يؤخذ باليقين .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا الثاني أصح . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع .

                                                                                                                                                                        متى عدل المستحق من غير السيف إلى السيف ، مكن منه ، لأنه أوحى وأسهل ، قال البغوي : وهو الأولى ، وأشار الإمام إلى وجه أنه لا يعدل من الخنق إلى السيف ، والمذهب : الأول .

                                                                                                                                                                        فرع .

                                                                                                                                                                        إذا جوع الجاني مدة تجويعه ، أو ألقي في النار مثل مدته ، أو ضرب بالسوط والحجر كضربه ، فلم يمت ، فقولان .

                                                                                                                                                                        أحدهما : يزاد في ذلك الجنس حتى يموت ، والثاني : يقتل بالسيف ، وفرق جماعة فقالوا : يفعل الأهون منهما ، وهذا أقرب ، والأول : أظهر عند البغوي .

                                                                                                                                                                        وقيل : يعدل في السوط والحجر إلى السيف ، قال الإمام : ولو قتل نحيفا بضربات تقتل مثله غالبا ، وعلمنا أو ظننا ظنا مؤكدا أن الجاني لا يموت بتلك الضربات لقوة جثته ، فالوجه القطع بأنه لا يضرب ، ثم قال : وفيه احتمال .

                                                                                                                                                                        [ ص: 231 ] فرع .

                                                                                                                                                                        هذا الذي ذكرناه في الاقتصاص بالقتل الموحي ، فأما غير الموحي من القتل ، كالجروح وقطع الأطراف إذا سرت إلى النفس ، فله حالان .

                                                                                                                                                                        أحدهما : أن تكون الجراحة بحيث يقتص فيها لو وقفت ، كالموضحة وقطع الكف ، فللمستحق أن يحز رقبته ، وله أن يوضحه أو يقطع كفه ، ثم إن شاء حز رقبته في الحال ، وليس للجاني أن يقول : أمهلوني مدة بقاء المجني عليه بعد جنايتي ، لأن القصاص ثابت في الحال .

                                                                                                                                                                        وعن ابن القطان أن له ذلك ، والصحيح الأول ، وإن شاء أمهله إلى السراية كما سبق ، وليس للجاني أن يقول : أريحوني بالقتل أو العفو ، بل الخيرة للمستحق ، وإذا اقتص في موضحة الجناية ، أو قطع العضو المقطوع مثله ، لم يكن له أن يوضح موضعا آخر ، ولا أن يقطع عضوا آخر بلا خلاف ، بل ليس له إلا حز الرقبة .

                                                                                                                                                                        الحال الثاني : أن تكون الجراحة بحيث لا يقتص فيها لو وقفت ، كالجائفة وقطع اليد من نصف الساعد ، فهل يجوز استيفاء القصاص بهذا الطريق تحقيقا للمماثلة ، أم يجب العدول إلى حز الرقبة ؟ قولان .

                                                                                                                                                                        أظهرهما عند الأكثرين : الأول ، فعلى هذا لو أجافه كجائفته ، فلم يمت ، فهل يزاد في الجوائف ، وجهان .

                                                                                                                                                                        أصحهما : لا ، قال البغوي : وإذا قلنا : يجوز الاقتصاص بطريق الجائفة ، فقال : أجيفه ، ثم أعفو عنه إن لم يمت ، لم يمكن منه ، إنما يمكن إذا قال : أجيفه ثم أحز رقبته ، وكذا لو قال : أرميه من الشاهق ثم أعفو ، قال : ولو أجافه ثم عفا عنه ، عزر على ما فعل ، ولم يجبر على قتله ، فإن مات ، بان بطلان العفو .

                                                                                                                                                                        والقولان في أنه هل يستوفى القصاص بالجائفة ونحوها ؟ يجريان فيما قطع يدا شلاء ، ويد القاطع صحيحة ، أو ساعدا ممن لا كف له ، والقاطع سليم ، هل يستوفى القصاص بقطع اليد والساعد ؟ .

                                                                                                                                                                        [ ص: 232 ] فرع .

                                                                                                                                                                        المماثلة مرعية في قصاص الطرف ، كما هي مرعية في قصاص النفس بشرط إمكان رعايتها ، فلو أبان طرفا من أطرافه بمثقل ، لم يقتص إلا بالسيف .

                                                                                                                                                                        ولو أوضح رأسه بالسيف ، لم يوضح بالسيف ، بل يوضح بحديدة خفيفة ، فإن كان الطريق موثوقا به مضبوطا ، قوبل بمثله ، كفقء العين بالأصبع .

                                                                                                                                                                        فرع .

                                                                                                                                                                        قطعه رجل من الكوع ، ثم قطع آخر ساعده من المرفق قبل اندمال القطع الأول ، فمات بالسراية ، فالقصاص عليهما ، وطريق استيفائه من الأول أن تقطع يده من الكوع ، فإن لم يمت ، حزت رقبته .

                                                                                                                                                                        وأما الثاني ، فإن كان له ساعد بلا كف ، اقتص منه بقطع مرفقه ، ثم يقتل ، وإن كانت يده سليمة ، فهل تقطع من المرفق ثم تحز رقبته ، أم يقتصر على الحز ؟ قولان ويقال : وجهان .

                                                                                                                                                                        أظهرهما : الأول ، وهو نصه في " المختصر " لترد الحديدة على موردها في الجناية ، ولا عبرة بزيادة الكف الهالكة بهلاك النفس ، ولو أراد الولي العفو عن الأول بعد أن أقطعه من الكوع ، قال الأصحاب : لا يجوز أن يعفو على مال ، لأن الواجب عليه نصف الدية ، فإنه أحد القاتلين ، وقد استوفى النصف باليد التي قطعها ، وإن أراد أن يعفو عن الثاني على مال ، فله نصف الدية إلا قدر أرش الساعد ، فإنه لم يستوف منه إلا الساعد .

                                                                                                                                                                        فرع .

                                                                                                                                                                        إذا اقتص من قاطع اليد ، ثم مات المجني عليه بالسراية ، فللولي أن يحز رقبته ، وله أن يعفو ويأخذ نصف الدية ، واليد المستوفاة مقابلة [ ص: 233 ] بالنصف ، فإن مات الجاني ، أو قتل ظلما ، أو في قصاص آخر ، تعين أخذ نصف الدية من تركته ، ولو قطع يدي رجل ، فقطعت يداه قصاصا ، ثم مات المجني عليه بالسراية ، فللولي حز رقبة الجاني ، فلو عفا ، فلا مال له ، لأنه استوفى ما يقابل الدية ، وهذه صورة يستحق فيها القصاص ولا تستحق الدية بالعفو عليها ، ولو اقتص من قاطع اليد ، فمات بالسراية ، فلا شيء على المقتص .

                                                                                                                                                                        ولو ماتا جميعا بالسراية بعد الاقتصاص في اليد ، نظر ، إن مات المجني عليه أولا ، أو ماتا معا ، فوجهان .

                                                                                                                                                                        الصحيح الذي عليه الجمهور : أنه لا شيء على الجاني .

                                                                                                                                                                        والثاني : أن في تركته نصف الدية ، نقله ابن كج عن عامة الأصحاب ، وإن مات الجاني أولا ، فهل يجب في تركته نصف الدية ، أم لا شيء ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        أصحهما : الأول ، فلو كان ذلك في الموضحة ، وجب تسعة أعشار الدية ونصف عشرها ، وقد أخذ بقصاص الموضحة نصف العشر .

                                                                                                                                                                        فرع .

                                                                                                                                                                        قطعه ، فحز المقطوع رقبة الجاني ، فإن مات المقطوع بالسراية ، صار قصاصا ، وإن اندمل ، قتل قصاصا ، وفي تركة الجاني نصف الدية لقطعه اليد ، هكذا ذكره البغوي .

                                                                                                                                                                        فرع .

                                                                                                                                                                        قطع يد رجل وقتل آخر ثم مات المقطوع بالسراية فقد قتل شخصين ، نقل صاحب " الشامل " عن الأصحاب أنه يقتل بالمقتول دون المقطوع ، لأن قصاص المقطوع وجب بالسراية وهي متأخرة عن وجوبه للمقتول ، لكن لولي المقطوع أن يقطع يده ، فإذا قتله الآخر ، أخذ نصف الدية من تركته ، وتوقف في تخصيص الاقتصاص في النفس [ ص: 234 ] بالمقتول ، ولو أنه بعد ما قطع واحدا ، وقتل آخر قطعت يده قصاصا ، ومات بالسراية ، فلولي المقتول الدية في تركته ، وإن قطع قصاصا ثم قتل قصاصا ، ثم مات المقطوع الأول ، فلوليه نصف الدية في تركة الجاني .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية