الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            النوع العاشر : من التكاليف المذكورة في هذه السورة .

                                                                                                                                                                                                                                            ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا )

                                                                                                                                                                                                                                            في الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : ذكروا في سبب النزول وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن جماعة من أفاضل الصحابة صنع لهم عبد الرحمن بن عوف طعاما وشرابا حين كانت الخمر مباحة ، فأكلوا وشربوا ، فلما ثملوا جاء وقت صلاة المغرب ، فقدموا أحدهم ليصلي بهم ، فقرأ : أعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد . فنزلت هذه الآية ، فكانوا لا يشربون في أوقات الصلوات ، فإذا صلوا العشاء شربوها ، فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون ، ثم نزل تحريمها على الإطلاق في سورة المائدة . وعن عمر - رضي الله عنه - أنه لما بلغه ذلك قال : اللهم إن الخمر تضر بالعقول والأموال ، فأنزل فيها أمرك ، فصبحهم الوحي بآية المائدة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قال ابن عباس : نزلت في جماعة من أكابر الصحابة قبل تحريم الخمر ، كانوا يشربونها ثم يأتون المسجد للصلاة مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فنهاهم الله عنه .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : في لفظ الصلاة قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : المراد منه المسجد ، وهو قول ابن عباس وابن مسعود والحسن ، وإليه ذهب الشافعي .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن إطلاق لفظ الصلاة على المسجد محتمل ، ويدل عليه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه يكون من باب حذف المضاف ، أي لا تقربوا موضع الصلاة ، وحذف المضاف مجاز شائع .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : قوله : ( لهدمت صوامع وبيع وصلوات ) [ الحج : 40 ] والمراد بالصلوات مواضع الصلوات ، فثبت أن إطلاق لفظ الصلاة والمراد به المسجد جائز .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : وعليه الأكثرون : أن المراد بالصلاة في هذه الآية نفس الصلاة ، أي لا تصلوا إذا كنتم سكارى .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن فائدة الخلاف تظهر في حكم شرعي ، وهو أن على التقدير الأول يكون المعنى : لا تقربوا المسجد وأنتم سكارى ولا جنبا إلا عابري سبيل ، وعلى هذا الوجه يكون الاستثناء دالا على أنه يجوز للجنب العبور في المسجد ، وهو قول الشافعي . وأما على القول الثاني فيكون المعنى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ، ولا تقربوها [ ص: 88 ] حال كونكم جنبا إلا عابري سبيل ، والمراد بعابر السبيل المسافر ، فيكون هذا الاستثناء دليلا على أنه يجوز للجنب الإقدام على الصلاة عند العجز عن الماء . قال أصحاب الشافعي : هذا القول الأول أرجح ، ويدل عليه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه قال : ( لا تقربوا الصلاة ) والقرب والبعد لا يصحان على نفس الصلاة على سبيل الحقيقة ، إنما يصحان على المسجد .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنا لو حملناه على ما قلنا لكان الاستثناء صحيحا ، أما لو حملناه على ما قلتم لم يكن صحيحا ؛ لأن من لم يكن عابر سبيل وقد عجز عن استعمال الماء بسبب المرض الشديد - فإنه يجوز له الصلاة بالتيمم ، وإذا كان كذلك كان حمل الآية على ذلك أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أنا إذا حملنا عابر السبيل على الجنب المسافر فهذا إن كان واجدا للماء لم يجز له القرب من الصلاة البتة ، فحينئذ يحتاج إلى إضمار هذا الاستثناء في الآية ، وإن لم يكن واجدا للماء لم يجز له الصلاة إلا مع التيمم ، فيفتقر إلى إضمار هذا الشرط في الآية ، وأما على ما قلناه فإنا لا نفتقر إلى إضمار شيء في الآية ، فكان قولنا أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : أن الله تعالى ذكر حكم السفر وعدم الماء وجواز التيمم بعد هذا ، فلا يجوز حمل هذا على حكم مذكور في آية بعد هذه الآية ، والذي يؤكده أن القراء كلهم استحبوا الوقف عند قوله : ( حتى تغتسلوا ) ثم يستأنف قوله : ( وإن كنتم مرضى ) لأنه حكم آخر . وأما إذا حملنا الآية على ما ذكرنا لم نحتج فيه إلى هذه الإلحاقات ، فكان ما قلناه أولى . ولمن نصر القول الثاني أن يقول : إن قوله تعالى : ( حتى تعلموا ما تقولون ) يدل على أن المراد من قوله : ( لا تقربوا الصلاة ) نفس الصلاة ؛ لأن المسجد ليس فيه قول مشروع يمنع السكر منه ، أما الصلاة ففيها أقوال مخصوصة يمنع السكر منها ، فكان حمل الآية على هذا أولى ، وللقائل الأول أن يجيب بأن الظاهر أن الإنسان إنما يذهب إلى المسجد لأجل الصلاة ، فما يخل بالصلاة كان كالمانع من الذهاب إلى المسجد ؛ فلهذا ذكر هذا المعنى .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قال الواحدي - رحمه الله - : السكارى جمع سكران ، وكل نعت على فعلان فإنه يجمع على : فعالى وفعالى ، مثل كسالى وكسالى ، وأصل السكر في اللغة سد الطريق ، ومن ذلك سكر البثق وهو سده ، وسكرت عينه سكرا إذا تحيرت ، ومنه قوله تعالى : ( إنما سكرت أبصارنا ) [ الحجر : 15 ] أي غشيت فليس ينفذ نورها ولا تدرك الأشياء على حقيقتها ، ومن ذلك سكر الماء وهو رده على سننه في الجري . والسكر من الشراب وهو أن ينقطع عما عليه من النفاذ حال الصحو ، فلا ينفذ رأيه على حد نفاذه في حال صحوه . إذا عرفت هذا فنقول : في لفظ السكارى في هذه الآية قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : المراد منه السكر من الخمر ، وهو نقيض الصحو ، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : وهو قول الضحاك : وهو أنه ليس المراد منه سكر الخمر ، إنما المراد منه سكر النوم ، قال : ولفظ السكر يستعمل في النوم ، فكان هذا اللفظ محتملا له ، والدليل دل عليه ، فوجب المصير إليه ، أما بيان أن اللفظ محتمل له فمن وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : ما ذكرنا : أن لفظ السكر في أصل اللغة عبارة عن سد الطريق ، ولا شك أن عند النوم تمتلئ مجاري الروح من الأبخرة الغليظة فتنسد تلك المجاري بها ، ولا ينفذ الروح الباصر والسامع إلى ظاهر البدن .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قول الفرزدق :


                                                                                                                                                                                                                                            من السير والإدلاج يحسب أنما سقاه الكرى في كل منزلة خمرا



                                                                                                                                                                                                                                            وإذا ثبت أن اللفظ محتمل له ، فنقول : الدليل دل عليه ، وبيانه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن قوله تعالى : [ ص: 89 ] ( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) ظاهره أنه تعالى نهاهم عن القرب من الصلاة حال صيرورتهم بحيث لا يعلمون ما يقولون ، وتوجيه التكليف على مثل هذا الإنسان ممتنع بالعقل والنقل ، أما العقل فلأن تكليف مثل هذا الإنسان يقتضي تكليف ما لا يطاق ، وأما النقل فهو قوله - عليه الصلاة والسلام - : " رفع القلم عن ثلاث : عن الصبي حتى يبلغ ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى يستيقظ " ولا شك أن هذا السكران يكون مثل المجنون ، فوجب ارتفاع التكليف عنه .

                                                                                                                                                                                                                                            والحجة الثانية : قوله - عليه الصلاة والسلام - : " إذا نعس أحدكم وهو في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم ، فإنه إذا صلى وهو ينعس لعله يذهب ليستغفر فيسب نفسه " هذا تقرير قول الضحاك .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن الصحيح هو القول الأول ، ويدل عليه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن لفظ السكر حقيقة في السكر من شرب الخمر ، والأصل في الكلام الحقيقة ، فأما حمله على السكر من العشق ، أو من الغضب أو من الخوف ، أو من النوم ، فكل ذلك مجاز ، وإنما يستعمل مقيدا . قال تعالى : ( وجاءت سكرة الموت ) [ ق : 19 ] وقال : ( وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ) [ الحج : 2 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن جميع المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية إنما نزلت في شرب الخمر ، وقد ثبت في أصول الفقه أن الآية إذا نزلت في واقعة معينة ولأجل سبب معين ، امتنع أن لا يكون ذلك السبب مرادا بتلك الآية ، فأما قول الضحاك كيف يتناوله النهي حال كونه سكران ؟ فنقول : وهذا أيضا لازم عليكم ، لأنه يقال : كيف يتناوله النهي وهو نائم لا يفهم شيئا ؟ ثم الجواب عنه : أن المراد من الآية النهي عن الشرب المؤدي إلى السكر المخل بالفهم حال وجوب الصلاة عليهم ، فخرج اللفظ عن النهي عن الصلاة في حال السكر مع أن المراد منه النهي عن الشرب الموجب للسكر في وقت الصلاة . وأما الحديث الذي تمسك به فذاك لا يدل على أن السكر المذكور في الآية هو النوم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قال بعضهم : هذه الآية منسوخة بآية المائدة ، وأقول : الذي يمكن ادعاء النسخ فيه أنه يقال : نهى عن قربان الصلاة حال السكر ممدودا إلى غاية أن يصير بحيث يعلم ما يقول ، والحكم الممدود إلى غاية يقتضي انتهاء ذلك الحكم عند تلك الغاية ، فهذا يقتضي جواز قربان الصلاة مع السكر إذا صار بحيث يعلم ما يقول ، ومعلوم أن الله تعالى لما حرم الخمر بآية المائدة فقد رفع هذا الجواز ، فثبت أن آية المائدة ناسخة لبعض مدلولات هذه الآية . هذا ما خطر ببالي في تقرير هذا النسخ .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عنه : أنا بينا أن حاصل هذا النهي راجع إلى النهي عن الشرب الموجب للسكر عند القرب من الصلاة ، وتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه إلا على سبيل الظن الضعيف ، ومثل هذا لا يكون نسخا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : قال صاحب " الكشاف " : قرئ " سكارى " بفتح السين ، و " سكرى " على أن يكون جمعا نحو : هلكى ، وجوعى .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ولا جنبا إلا عابري سبيل ) قوله : ( ولا جنبا ) عطف على قوله : ( وأنتم سكارى ) والواو ههنا للحال ، والتقدير : لا تقربوا الصلاة حال ما تكونون سكارى ، وحال ما تكونون جنبا ، والجنب يستوي فيه الواحد والجمع ، المذكر والمؤنث ؛ لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب . وقد ذكرنا أن أصل الجنابة البعد ، وقيل للذي يجب عليه الغسل : جنب ؛ لأنه يجتنب الصلاة والمسجد وقراءة القرآن حتى [ ص: 90 ] يتطهر . ثم قال : ( إلا عابري سبيل ) وقد ذكرنا أن فيه قولين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن هذا العبور المراد منه العبور في المسجد .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن المراد بقوله : ( إلا عابري سبيل ) المسافرون ، وبينا كيفية ترجيح أحدهما على الآخر .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية