الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 509 ] سورة الناس وقال رحمه الله فصل في { قل أعوذ برب الناس } إلى آخرها . قوله : { من شر الوسواس الخناس } { الذي يوسوس في صدور الناس } { من الجنة والناس } فيها أقوال ولم يذكر ابن الجوزي إلا قولين ولم يذكر الثالث وهو الصحيح وهو أن قوله من الجنة والناس لبيان الوسواس أي الذي يوسوس من الجنة ومن الناس في صدور الناس فإن الله تعالى قد أخبر أنه جعل لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا وإيحاؤهم هو وسوستهم وليس من شرط الموسوس أن يكون مستترا عن البصر ; بل قد يشاهد قال تعالى : { فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين } { وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين } وهذا كلام من يعرف قائله ليس شيئا يلقى في القلب لا يدري ممن هو وإبليس قد أمر بالسجود لآدم فأبى واستكبر فلم يكن ممن لا يعرفه آدم وهو ونسله يرون بني آدم من حيث لا يرونهم وأما آدم فقد رآه .

                [ ص: 510 ] وقد يرى الشياطين والجن كثير من الإنس لكن لهم من الاجتنان والاستتار ما ليس للإنس وقد قال تعالى : { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم } وفي التفسير والسيرة : أن الشيطان جاءهم في صورة بعض الناس وكذلك قوله : { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين } . وفي حديث أبي ذر { عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن قلت : أو للإنس شياطين ؟ قال : نعم شر من شياطين الجن } . وأيضا فالنفس لها وسوسة كما قال تعالى : { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } فهذا توسوس به نفسه لنفسه كما يقال حديث النفس قال النبي صلى الله عليه وسلم { إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به } أخرجاه في الصحيحين . فالذي يوسوس في صدور الناس نفوسهم وشياطين الجن وشياطين الإنس . والوسواس الخناس يتناول وسوسة الجنة ووسوسة الإنس وإلا [ ص: 511 ] أي معنى للاستعاذة من وسوسة الجن فقط مع أن وسوسة نفسه وشياطين الإنس هي مما تضره وقد تكون أضر عليه من وسوسة الجن . وأما قول الفراء : أن المراد من شر الوسواس الذي يوسوس في صدور الناس : الطائفتين من الجن والإنس وأنه سمى الجن ناسا كما سماهم رجالا وسماهم نفرا فهذا ضعيف فإن لفظ الناس أشهر وأظهر وأعرف من أن يحتاج إلى تنويعه إلى الجن والإنس وقد ذكر الله تعالى لفظ الناس في غير موضع .

                وأيضا فكونه يوسوس في صدور الطائفتين صفة توضيح وبيان وليس وسوسة الجن معروفة عند الناس وإنما يعرف هذا بخبر ولا خبر هنا ثم قد قال : { من الجنة والناس } فكيف يكون لفظ الناس عاما للجنة والناس وكيف يكون قسيم الشيء قسما منه فهو يجعل الناس قسيم الجن ويجعل الجن نوعا من الناس وهذا كما يقول : أكرم العرب من العجم والعرب فهل يقول هذا أحد وإذا سماهم الله تعالى رجالا لم يكن في هذا دليل على أنهم يسمون ناسا وإن قدر أنه يقال جاء ناس من الجن فذاك مع التقييد كما يقال إنسان من طين وماء دافق ولا يلزم من هذا أن يدخلوا في لفظ الناس وقد قال تعالى : { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها } فالناس كلهم مخلوقون من آدم وحواء مع أنه سبحانه يخاطب الجن والإنس . والرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الجنسين لكن لفظ الناس لم يتناول الجن ولكن يقول يا معشر الجن والإنس . وكذلك قول الزجاج : أن المعنى { من شر الوسواس } الذي هو الجنة ومن شر الناس فيه ضعف وإن كان أرجح من الأول ; لأن شر الجن أعظم من شر الإنس فكيف يطلق الاستعاذة من جميع الناس ولا يستعيذ إلا من بعض الجن . وأيضا فالوسواس الخناس إن لم يكن إلا من الجنة فلا حاجة إلى قوله { من الجنة } ومن { الناس } فلماذا يخص الاستعاذة من وسواس الجنة دون وسواس الناس . وأيضا فإنه إذا تقدم المعطوف اسما كان عطفه على القريب أولى كما أن عود الضمير إلى الأقرب أولى إلا إذا كان هناك دليل يقتضي العطف على البعيد فعطف الناس هنا على الجنة المقرون به أولى من عطفه على الوسواس . [ ص: 513 ] ويكفي أن المسلمين كلهم يقرءون هذه السورة من زمن نبيهم ولم ينقل هذان القولان إلا عن بعض النحاة والأقوال المأثورة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان ليس فيها شيء من هذا بل إنما فيها القول الذي نصرناه كما في تفسير معمر عن قتادة { من الجنة والناس } قال : إن في الجن شياطين وإن في الإنس شياطين فنعوذ بالله من شياطين الإنس والجن ; فبين قتادة أن المعنى الاستعاذة من شياطين الإنس والجن .

                وروى ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله { الوسواس الخناس } قال : الخناس الذي يوسوس مرة ويخنس مرة من الجن والإنس فبين ابن زيد أن الوسواس الخناس من الصنفين وكان يقال : شياطين الإنس أشد على الناس من شياطين الجن : شيطان الجن يوسوس ولا تراه وهذا يعاينك معاينة . وعن ابن جريج : { من الجنة والناس } قال : إنما وسواسان فوسواس من الجنة فهو { الخناس } ووسواس من نفس الإنسان فهو قوله : { والناس } وهذا القول الثالث وإن كان يشبه قول الزجاج فهذا أحسن منه فإنه جعل من الناس الوسواس الذي من نفس الإنسان فمعناه أحسن ذكر الثلاثة ابن أبي حاتم في تفسيره . [ ص: 514 ] وأيضا فإنه ذكر في الآية { برب الناس } { ملك الناس } { إله الناس } فإن كان المقصود أن يستعيذ الناس بربهم وملكهم وإلههم من شر ما يوسوس في صدورهم فإنه هو الذي يطلب منه الخير الذي ينفعهم ويطلب منه دفع الشر الذي يضرهم والوسواس أصل كل شر يضرهم ; لأنه مبدأ للكفر والفسوق والعصيان وعقوبات الرب إنما يكون على ذنوبهم وإذا لم يكن لأحدهم ذنب فكل ما يصيبه نعمة في حقه وإذا ابتلي بما يؤلمه فإن الله يرفع درجته ويأجره إذا قدر عدم الذنوب مطلقا لكن هذا ليس بواقع منهم فإن كل بني آدم خطاء وخير الخاطئين التوابون وقد قال تعالى : { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات } . فغاية المؤمنين الأنبياء فمن دونهم هي التوبة . قال الله تعالى : { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم } وقال : نوح { رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين } وقال إبراهيم وإسماعيل : { ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم } وقال موسى : { أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين } ودعاء نبينا بمثل ذلك كثير معروف .

                [ ص: 515 ] فكان الوسواس مبدأ كل شر فإن كانوا قد استعاذوا بربهم وملكهم وإلههم من شره فقد دخل في ذلك وسواس الجن والإنس وسائر شر الإنس إنما يقع بذنوبهم فهو جزاء على أعمالهم كالشر الذي يقع من الجن بغير الوسواس وكما يحصل من العقوبات السماوية وهم لم يستعيذوا هنا من شر المخلوقات مطلقا كما استعاذوا في سورة الفلق بل من الشر الذي يكون مبدؤه في نفوسهم وإن كان ذكر رب الناس ملك الناس إله الناس يستعيذون به ليعيذهم وليعيذ منهم وهذا أعم المعنيين فذلك يحصل بإعاذته من شر الوسواس الموسوس في صدور الناس فإنه هو الذي يوسوس بظلم الناس بعضهم بعضا وبإغواء بعضهم بعضا وبإعانة بعضهم بعضا على الإثم والعدوان . فما حصل لإنسي شر من إنسي إلا كان مبدؤه من الوسواس الخناس وإلا فما يحصل من أذى بعضهم لبعض إذا لم يكن من الوسواس بل كان من الوحي الذي بعث الله به ملائكته كان عدلا كإقامة الحدود وجهاد الكفار والاقتصاص من الظالمين فهذه الأمور فيها ضرر وأذى للظالمين من الإنس لكن هي بوحي الله لا من الوسواس وهي نعمة من الله في حق عباده حتى في حق المعاقب فإنه إذا عوقب كان ذلك كفارة له إن كان مؤمنا وإلا كان تخفيفا لعذابه في الآخرة بالنسبة إلى عذاب من لم يعاقب في الدنيا . [ ص: 516 ] ولهذا كان محمد - صلى الله عليه وسلم - رحمة في حق العالمين باعتبار ما حصل من الخير العام به وما حصل للمؤمنين به من سعادة الدنيا والآخرة وباعتبار أنه في نفسه رحمة فمن قبلها وإلا كان هو الظالم لنفسه وباعتبار أنه قمع الكفار والمنافقين فنقص شرهم وعجزوا عما كانوا يفعلونه بدونه وقتل من قتل منهم فكان تعجيل موتهم خيرا من طول عمرهم في الكفر لهم وللناس فكان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين بكل اعتبار فلا يستعاذ منه ومن أمثاله من الأنبياء وأتباعهم المؤمنين وهم من الناس وإن كانوا يفعلون بأعدائهم ما هو أذى وعقوبة وألم لهم فلم تبق الاستعاذة من الناس إلا مما يأتي به الوسواس إليهم فيستعاذ برب الناس ملك الناس إله الناس على هذا التقدير من شر الوسواس الذي يوسوس للمستعيذ ومن شر الوسواس الذي يوسوس لسائر الناس حتى لا يحصل منهم شر للمستعيذ فإذا لم يكن للناس شر إلا من الوسواس كانت الاستعاذة من شر الذي يوسوس لهم تحصيلا للمقصود وكان حسما للمادة وأقرب إلى العدل وكان مخرجا لأنبياء الله وأوليائه أن يستعاذ من شرهم وأن يقرنوا بالوسواس الخناس ويكون ذلك تفضيلا للجن على الإنس وهذا لا يقوله عاقل .

                فإن قيل : فإن كان أصل الشر كله من الوسواس الخناس فلا حاجة [ ص: 517 ] إلى ذكر الاستعاذة من وسواس الناس فإنه تابع لوسواس الجن . قيل : بل الوسوسة نوعان : نوع من الجن ونوع من نفوس الإنس . كما قال : { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } فالشر من الجهتين جميعا والإنس لهم شياطين كما للجن شياطين والوسوسة من جنس الوشوشة بالشين المعجمة يقال فلان يوشوش فلانا وقد وشوشه إذا حدثه سرا في أذنه وكذلك الوسوسة ومنه وسوسة الحلي لكن هو بالسين المهملة أخص . و رب الناس : الذي يربيهم بقدرته ومشيئته - وتدبيره وهو رب العالمين كلهم فهو الخالق للجميع ولأعمالهم . { ملك الناس } الذي يأمرهم وينهاهم فإن الملك يتصرف بالكلام والجماد لا ملك له فإنه لا يعقل الخطاب لكن له مالك وإنما يكون الملك لمن يفهم عنه والحيوان يفهم بعضه عن بعض كما قال : { علمنا منطق الطير } { قالت نملة يا أيها النمل } فلهذا كان له ملك من جنسه ومن غير جنسه كما كان سليمان ملكهم . والإله : هو المعبود الذي هو المقصود بالإرادات والأعمال كلها كما قد بسط الكلام على ذلك . وقد قيل : إنما خص الناس بالذكر ; لأنهم مستعيذون أو لأنهم [ ص: 518 ] المستعاذ من شرهم ذكرهما أبو الفرج وليس لهما وجه فإن وسواس الجن أعظم ولم يذكره بل ذكر الناس لأنهم المستعيذون فيستعيذون بربهم الذي يصونهم وبملكهم الذي أمرهم ونهاهم وبإلههم الذي يعبدونه من شر الذي يحول بينهم وبين عبادته ويستعيذون أيضا من شر الوسواس الذي يحصل في نفوس الناس منهم ومن الجنة فإنه أصل الشر الذي يصدر منهم والذي يرد عليهم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية