الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا )

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 93 ] اعلم أنه تعالى لما ذكر من أول هذه السورة إلى هذا الموضع أنواعا كثيرة من التكاليف والأحكام الشرعية ، قطع ههنا ببيان الأحكام الشرعية ، وذكر أحوال أعداء الدين وأقاصيص المتقدمين ؛ لأن البقاء في النوع الواحد من العلم مما يكل الطبع ويكدر الخاطر ، فأما الانتقال من نوع من العلوم إلى نوع آخر ، فإنه ينشط الخاطر ويقوي القريحة ، وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قوله : ( ألم تر ) معناه : ألم ينته علمك إلى هؤلاء ، وقد ذكرنا ما فيه عند قوله : ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم ) [ البقرة : 258 ] وحاصل الكلام أن العلم اليقيني يشبه الرؤية ، فيجوز جعل الرؤية استعارة عن مثل هذا العلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : الذين أوتوا نصيبا من الكتاب هم اليهود ، ويدل عليه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن قوله بعد هذه الآية : ( من الذين هادوا ) [ النساء : 46 ] متعلق بهذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : روى ابن عباس أن هذه الآية نزلت في حبرين من أحبار اليهود كانا يأتيان رأس المنافقين عبد الله بن أبي ورهطه فيثبطونهم عن الإسلام .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن عداوة اليهود كانت أكثر من عداوة النصارى بنص القرآن ، فكانت إحالة هذا المعنى على اليهود أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : لم يقل تعالى : إنهم أوتوا علم الكتاب ، بل قال : ( أوتوا نصيبا من الكتاب ) لأنهم عرفوا من التوراة نبوة موسى - عليه السلام - ولم يعرفوا منها نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فأما الذين أسلموا كعبد الله بن سلام وعرفوا الأمرين فوصفهم الله بأن معهم علم الكتاب فقال : ( قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) [ الرعد : 43 ] والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : اعلم أنه تعالى وصفهم بأمرين : الضلال والإضلال ، أما الضلال فهو قوله : ( يشترون الضلالة ) وفيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قال الزجاج : يؤثرون تكذيب الرسول - عليه الصلاة والسلام - ليأخذوا الرشا على ذلك ويحصل لهم الرياسة ، وإنما ذكر ذلك بلفظ الاشتراء ؛ لأن من اشترى شيئا آثره .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن في الآية إضمارا ، وتأويله : يشترون الضلالة بالهدى ، كقوله : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) [ البقرة : 16 ] أي يستبدلون الضلالة بالهدى ، ولا إضمار على قول الزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : المراد بهذه الآية عوام اليهود ، فإنهم كانوا يعطون أحبارهم بعض أموالهم ، ويطلبون منهم أن ينصروا اليهودية ويتعصبوا لها ، فكانوا جارين مجرى من يشتري بماله الشبهة والضلالة ، ولا إضمار على هذا التأويل أيضا ، ولكن الأولى أن تكون الآية نازلة في علمائهم ، ثم لما وصفهم تعالى بالضلال وصفهم بعد ذلك بالإضلال فقال : ( ويريدون أن تضلوا السبيل ) يعني أنهم يتوصلون إلى إضلال المؤمنين والتلبيس عليهم ؛ لكي يخرجوا عن الإسلام .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنك لا ترى حالة أسوأ ولا أقبح ممن جمع بين هذين الأمرين ، أعني الضلال والإضلال . ثم قال تعالى : ( والله أعلم بأعدائكم ) أي هو سبحانه أعلم بكنه ما في قلوبهم وصدورهم من العداوة والبغضاء .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ) والمعنى أنه تعالى لما بين شدة عداوتهم للمسلمين ، بين أن الله تعالى ولي المسلمين وناصرهم ، ومن كان الله وليا له وناصرا له لم تضره عداوة الخلق ، وفي الآية سؤالات :

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الأول : ولاية الله لعبده عبارة عن نصرته له ، فذكر النصير بعد ذكر الولي تكرار .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 94 ] والجواب : أن الولي المتصرف في الشيء ، والمتصرف في الشيء لا يجب أن يكون ناصرا له ، فزال التكرار .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : لم لم يقل : وكفى بالله وليا ونصيرا ؟ وما الفائدة في تكرير قوله : ( وكفى بالله ) ؟

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أن التكرار في مثل هذا المقام يكون أشد تأثيرا في القلب وأكثر مبالغة .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثالث : ما فائدة الباء في قوله : ( وكفى بالله وليا ) ؟

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : ذكروا وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : لو قيل : كفى الله ، كان يتصل الفعل بالفاعل ، ثم ههنا زيدت الباء إيذانا أن الكفاية من الله ليست كالكفاية من غيره في الرتبة وعظم المنزلة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قال ابن السراج : تقدير الكلام : كفى اكتفاؤك بالله وليا ، ولما ذكرت " كفى " دل على الاكتفاء ؛ لأنه من لفظه ، كما تقول : من كذب كان شرا له ، أي كان الكذب شرا له ، فأضمرته لدلالة الفعل عليه .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : يخطر ببالي أن الباء في الأصل للإلصاق ، وذلك إنما يحسن في المؤثر الذي لا واسطة بينه وبين التأثير ، ولو قيل : كفى الله ، دل ذلك على كونه تعالى فاعلا لهذه الكفاية ، ولكن لا يدل ذلك على أنه تعالى يفعل بواسطة أو بغير واسطة ، فإذا ذكرت حرف الباء دل على أنه يفعل بغير واسطة ، بل هو تعالى يتكفل بتحصيل هذا المطلوب ابتداء من غير واسطة أحد ، كما قال : ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) [ ق : 16 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية