الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        990 [ ص: 133 ] ( 10 ) باب ما جاء في السلب في النفل

                                                                                                                        946 - مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمر بن كثير بن أفلح ، عن أبي محمد ، مولى أبي قتادة ، عن أبي قتادة بن ربعي ؛ أنه قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حنين ، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة : قال : فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين ، قال : فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته بالسيف على حبل عاتقه ، فأقبل علي [ ص: 134 ] فضمني ضمة ، وجدت منها ريح الموت ، ثم أدركه الموت ، فأرسلني قال : فلقيت عمر بن الخطاب ، فقلت : ما بال الناس ؟ فقال : أمر الله ، ثم إن الناس رجعوا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من قتل قتيلا ، له عليه بينة ، فله سلبه " قال فقمت ، ثم قلت : من يشهد لي ؟ ثم جلست : ثم قال : " من قتل قتيلا ، له عليه بينة ، فله سلبه " قال فقمت ، ثم قلت : من يشهد لي ؟ ثم جلست . ثم قال ذلك ، الثالثة ، فقمت فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما لك يا أبا قتادة ؟ قال فاقتصصت عليه القصة ، فقال رجل من القوم : صدق يا رسول الله ، وسلب ذلك القتيل عندي ، فأرضه عنه يا رسول الله ، قال أبو بكر لا هاء الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله ، يقاتل عن الله ورسوله ، فيعطيك سلبه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . " صدق فأعطه إياه " فأعطانيه ، فبعت الدرع ، فاشتريت به مخرفا ، في بني سلمة فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام .

                                                                                                                        [ ص: 135 ]

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        [ ص: 135 ] 19730 - قال أبو عمر : قال يحيى في هذا الحديث : عمرو بن كثير بن أفلح وقد ذكرنا من تابعه على ذلك في " التمهيد " والأكثر يقولون : عمر بن كثير .

                                                                                                                        [ ص: 136 ] 19731 - وذكرنا هناك أبا محمد مولى أبي قتادة .

                                                                                                                        19732 - وذكرنا أبا قتادة في كتاب الصحابة .

                                                                                                                        [ ص: 137 ] 19733 - والغاية التي سيق لها هذا الحديث ، والغرض المقصود به إليه هو حكم السلب ، وهو باب اختلف فيه السلف والخلف .

                                                                                                                        19734 - فقال مالك : إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من قتل قتيلا له عليه بينة ، فله سلبه " . بعد أن برد القتال يوم حنين ، ولم يحفظ عنه ذلك في غير يوم حنين .

                                                                                                                        19735 - قال : ولا بلغني عن ذلك عن الخليفتين ، وليس السلب للقاتل حتى يقول ذلك ، والاجتهاد في ذلك إلى الإمام .

                                                                                                                        19736 - قال مالك : والسلب من النفل ، ولا نفل في ذهب ولا فضة ولا نفل إلا من الخمس .

                                                                                                                        19737 - وكره مالك أن يقول الإمام : من أصاب شيئا فهو له ، وكره أن يسفك أحد دمه على هذا وقال : هو قتال على جعل وكره للإمام أن يقول : من قاتل فله كذا ومن بلغ موضع كذا فله كذا ، ومن قتل قتيلا فله كذا أو نصف ما غنم .

                                                                                                                        19738 - قال : وإنما نفل النبي - عليه السلام - بعد القتال .

                                                                                                                        19739 - هذا جملة مذهب مالك في هذا الباب .

                                                                                                                        [ ص: 138 ] 19740 - ومذهب أبي حنيفة ، والثوري نحو ذلك .

                                                                                                                        19741 - واتفق مالك ، والثوري ، وأبو حنيفة : على أن السلب من غنيمة الجيش حكمه حكم سائر الغنيمة ، إلا أن يقول الأمير : " من قتل قتيلا فله سلبه " . فيكون حينئذ له .

                                                                                                                        19742 - وقال الأوزاعي ، والليث ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأبو عبيد : السلب للقاتل على كل حال ، قال ذلك الأمير أو لم يقله ؛ لأنها قضية قضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يحتاج لذلك إلى إذن الإمام فيها .

                                                                                                                        19743 - إلا أن الشافعي قال : إنما يكون السلب للقاتل إذا قتله مقبلا عليه ، وأما إذا قتله وهو مدبر ، فلا سلب له .

                                                                                                                        19744 - ومن حجته إجماع العلماء على ألا سلب لمن قتل طفلا أو شيخا هرما أو أجهز على جريح ، وكذلك من ذفف على جريح ، أو على من قطع في الحرب من أعضائه مالا يقدر على ذلك عن الدفع عن نفسه .

                                                                                                                        19745 - وفي ذلك دليل على أن السلب إنما حكى به النبي - عليه السلام - لمن في قتله مؤنة وشوكة ، وهو المقاتل لمن أقبل عليه ودافع عن نفسه ، والله أعلم .

                                                                                                                        19746 - وقال سائر الفقهاء : السلب للقاتل على كل حال ، مقبلا كان المقتول أو مدبرا ، على ظاهر الأحاديث : " من قتل قتيلا فله سلبه " .

                                                                                                                        19747 - وقال الأوزاعي ، وسعيد بن عبد الرحمن وسعيد بن عبد [ ص: 139 ] العزيز ، وسليمان بن موسى ، وفقهاء أهل الشام : إذا كانت المعمعة والتحمت الحرب ، فلا شيء سلب حينئذ لقاتل .

                                                                                                                        [ ص: 140 ] 19748 - وقال أبو ثور ومحمد بن جرير الطبري في السلب : السلب لكل قاتل في معركة كان أو غير معركة ، مقبلا كان أو مدبرا ، أو على أي حال كان ، على ظاهر الحديث .

                                                                                                                        19749 - وقال الأوزاعي ومكحول : السلب مغنم ، ويخمس .

                                                                                                                        19750 - وقال الشافعي : يخمس كل شيء من الغنيمة إلا السلب فإنه لا يخمس .

                                                                                                                        19751 - وهو قول أحمد بن حنبل ، والطبري .

                                                                                                                        19752 - واحتجوا بقول عمر بن الخطاب " كنا لا نخمس السلب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . " .

                                                                                                                        19753 - ومن حجته : ما حدثناه عبد الله قال : حدثنا محمد ، قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا سعيد بن منصور ، قال : أخبرنا إسماعيل بن عياش ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه ، عن عوف بن مالك [ ص: 141 ] الأشجعي ، وخالد بن الوليد " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالسلب للقاتل ، لم يخمس السلب .

                                                                                                                        19754 - وروي عن مالك : يخمس السلب .

                                                                                                                        19755 - وروي عنه : أن الإمام مخير فيه ، إن شاء خمسه ، إن شاء لم يخمسه .

                                                                                                                        19756 - قال أبو عمر : حجة من خمس السلب عموم قوله تعالى : 30 اعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه 30 [ الأنفال : 41 ] ولم يستثن سلبا ولا نفلا .

                                                                                                                        19757 - وحجة من لم ير فيه خمسا عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من قتل قتيلا فله سلبه " . فملكه إياه . ولم يستثن عليه شيئا منه ، ولا استثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا من سنته من جملة الغنيمة ، غير سلب القاتل .

                                                                                                                        19758 - وذكر عبد الرزاق ، عن معمر . عن أيوب ، عن ابن سيرين ، قال : بارز البراء بن مالك أخو أنس بن مالك ، مرزبان الزأرة فقتله ، فأخذ سلبه ، فبلغ سلبه ثلاثين ألفا . فبلغ ذلك عمر بن الخطاب ، فقال لأبي طلحة " إنا ، كنا لا نخمس السلب ، وإن سلب البراء قد بلغ مالا كثيرا ، ولا أرانا إلا خامسيه .

                                                                                                                        [ ص: 142 ] 19759 - وذكر ابن أبي شيبة ، عن عيسى بن يونس عن ابن عوف ، وهشام بن حسان عن ابن سيرين ، عن أنس بن مالك ، أن البراء بن مالك ، حمل على مرزبان الزأرة فطعنه طعنة دق قربوس سرجه ، وقتله وأخذ سلبه . . فذكر ما تقدم .

                                                                                                                        19760 - قال ابن سيرين : فحدثني ابن مالك أنه أول سلب خمس في الإسلام .

                                                                                                                        19761 - وقال إسحاق بهذا القول إذا استكثر الإمام السلب خمسه ، وذلك إليه .

                                                                                                                        19762 - وقد حدثنا محمد بن عبد الله بن حكم قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أبو خليفة ، قال : حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، قال : حدثنا عكرمة بن عمار ، قال : حدثنا عبد الله بن عبيد بن عمير ، أن عمر بن الخطاب بعث قتادة ، فقتل ملك فارس بيده ، وعليه منطقة ثمنها خمسة عشر ألف درهم ، فنفله عمر إياها .

                                                                                                                        19763 - وأما قول مالك : أنه لم يبلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من قتل قتيلا فله سلبه " إلا يوم حنين ، فقد بلغ غيره من ذلك ما لم يبلغه .

                                                                                                                        [ ص: 143 ] 19764 - وقد نفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببدر وغيرها ، فمن ذلك حديث عبد الرحمن بن عوف ، وقد ذكرناه بإسناده " بالتمهيد " أنه دل معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح على أبي جهل ، فحملا عليه ، فصرعاه ، ثم أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرا ذلك له ، وقال كل واحد منهما : أنا قتلته ، فنظر إلى سيفيهما ، فقال : " كلاكما قتله " وقضي بسلبه لهما .

                                                                                                                        [ ص: 144 ] 19765 - ومن ذلك أيضا خبر ابن مسعود في قتل أبي جهل ، أنه وجده مثخنا في قصة ذكرها ، فأخذ سيفه فنفله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياه .

                                                                                                                        19766 - وما رواه أيضا داود بن أبي هند ، عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من فعل كذا وكذا ، فله كذا كذا من النفل فتصارع الشبان ، ولزم المشيخة الدابة ، فلم يبرحوها ، فلما فتح الله عليهم جاء الشبان يطلبون ما جعل له ، وجعل له ، فقال الشيوخ : لا تستأثروا علينا ، فإنا كنا ردءا لكم ، وفيه : لو انكشفتم ، فأنزل الله تعالى 30 يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم . 30 [ الأنفال : 1 ] فدل على أن هنالك أنفالا نفلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان ذلك في حكم الله ورسوله .

                                                                                                                        19767 - وأما الحجة لمالك في أن السلب لا يكون للقاتل إلا أن ينادي به الإمام ، وأنه مردود إلى اجتهاده ، وأنها ليست قضية أمضاها حديث ابن عوف بن مالك الأشجعي ، وقصته مع خالد بن الوليد في أمر المددي وذلك أن المددي قتل الرومي وأخذ سلبه فانتزعه خالد بن الوليد ، فقال له عوف : أردد عليه سلبه تاما ، فقال : والله لأخبرن بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال عوف : فاجتمعنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقصصت عليه القصة ، وما فعل خالد بالمددي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 145 ] لخالد : " ما حملك على ما صنعت ؟ " فقال يا رسول الله ! استكثرت نفله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " رد عليه ما أخذت منه " ، فقال عوف لخالد : كيف رأيت يا خالد ألم أف لك ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وما ذاك ؟ " فأخبره ، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : " يا خالد : لا ترده عليه ، هل أنتم ، تاركون لي أمرائي ؟ لكم صفوة أمرهم ، وعليهم كدره " .

                                                                                                                        19768 - ذكره أبو داود ، عن أحمد بن حنبل ، عن الوليد بن مسلم ، عن صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه عن عوف بن مالك ، فقال أحمد بن حنبل ، عن الوليد : " سألت ثورا عن هذا الحديث ، فحدثني عن خالد بن معدان ، عن جبير بن نفير ، عن عوف بن مالك نحوه " .

                                                                                                                        19769 - قال أبو عمر : احتج من قال بأن السلب للقاتل مدبرا بحديث سلمة بن الأكوع أنه قتل القتيل ، فهو إذن ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من قتل القتيل " ؟ [ ص: 146 ] قالوا : سلمة بن الأكوع ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " له سلبه أجمع " .

                                                                                                                        [ ص: 147 ] 19770 - وقد ذكرنا الحديث بإسناده في " التمهيد " وليس فيه ما يدل على أن قتله ما يراد لا مقبلا ولا هاربا بل فيه على أن قتله مخاتلا مخادعا ، والله أعلم .

                                                                                                                        19771 - واختلف الفقهاء في الرجل يدعي أنه قتل رجلا بعينه ، وادعى سلبه :

                                                                                                                        19772 - فقالت طائفة منهم : يكلف على ذلك البينة ، فإن جاء بشاهدين أخذه ، وإن جاء بشاهد حلف معه ، وكان سلبه له .

                                                                                                                        19773 - واحتجوا بحديث أبي قتادة ، وبأنه حق يستحق مثله بشاهد ويمين .

                                                                                                                        19774 - وممن قال ذلك : الشافعي ، والليث ، وجماعة من أصحاب الحديث .

                                                                                                                        19775 - وقال الأوزاعي : ظاهر حديث [ أبي ] قتادة هذا يدل على أن ذلك حكم فيما مضى ، ولم يرد به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون أمرا لازما في المستقبل ؛ لأنه أعطاه السلب - بشهادة رجل واحد ، بلا يمين ومخرج ذلك على اجتهاد من الخمس ؛ إذا رأى ذلك الإمام مصلحة ، والقضاء فيه مؤتنف .

                                                                                                                        19776 - قال أبو عمر : بل أعطاه إياه ، والله أعلم ؛ لأنه قوله به من كان حازه لنفسه في القتال ؛ لأن أبا قتادة أحق بما في يديه منه ، فأمر بدفع ذلك إليه ، وكان [ ص: 148 ] درعا ، ولا يشك أنه سلب قتيل لا ما سواه من سائر المغانم ، وقد كان بيده مالا من ماله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من قتل قتيلا ، فله سلبه " .

                                                                                                                        19777 - وقد تقدم قول من قال إنها قضية ماضية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى به في مواطن شتى ألا خيار فيها لأحد .

                                                                                                                        19778 - وتقدم ذكر قول مالك والكوفيين في ذلك .

                                                                                                                        وفي هذا الباب :




                                                                                                                        الخدمات العلمية